مثّل اتصال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنظيره البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، في أغسطس للتوسط في الإفراج عن أكثر من 1300 سجين سياسي في بيلاروسيا، نقطة انعطاف في العلاقات بين البلدين؛ إذ أصبحت قضية السجناء السياسيين المحور الرئيس لسياسة واشنطن تجاه مينسك.
وكشف "جيمس تاون فاونديشن"، أن الاتصال الهاتفي يعد الأول للزعيمين بعد أكثر من 15 عامًا من القطيعة السياسية، في خطوة غير متوقعة جاءت بعد ساعات فقط من وصول رسالة إلى البيت الأبيض من منظمة "منتدى بيلاروس الديمقراطي"، طالبت فيها بالمساعدة في الإفراج عن هؤلاء المحتجزين.
وفي سبتمبر، وصف ترامب لوكاشينكو بأنه "قائد قوي" و"محترم"، مشيدًا بإفراجه عن 16 رهينة، وبعد أيام، التقى لوكاشينكو في مينسك بمبعوثين أمريكيين، وعلى رأسهم نائب المبعوث الخاص إلى أوكرانيا جون كويل؛ إذ تصدرت قضية السجناء السياسيين المباحثات.
لكن الإفراج عن السجناء ظل محدودًا وانتقائيًا؛ إذ ما زال أكثر من 1300 شخص رهن الاعتقال، بينهم صحفيون وطلاب ونشطاء، إضافة إلى مواطنين عاديين لمجرد نشرهم تعليقات ناقدة على وسائل التواصل، غير أن الإفراج الجزئي كشف أن لوكاشينكو يتعامل مع ملف المعتقلين كورقة مقايضةٍ للحصول على شرعية دولية وتخفيف العقوبات، لا كخطوة إصلاحية حقيقية.
ويرى الخبراء أن السجناء أصبحوا "رصيدًا سياسيًا" بيد لوكاشينكو؛ فخارجيًا، يستخدمهم في مساوماتٍ مع الغرب للحصول على تنازلات اقتصادية وسياسية، أمّا داخليًا؛ فوجودهم داخل السجون يزرع الخوف ويمنع المجتمع المدني من النمو، كما وثّقت تقارير حقوقية عمليات التعذيب وسوء المعاملة، إضافة إلى الضغط على أسر المعتقلين وتجريد محامين من تراخيصهم؛ ما يوضح أن القمع ممنهج ويخدم بقاء النظام.
ويعتقد مراقبون أن تدخُّل واشنطن غيَّر المشهد، لكن روسيا والصين تظلان لاعبين أساسيين؛ فلوكاشينكو يسعى لاستخدام الملف لكسب مساحة مناورة خارج ظل موسكو واستعادة بعض الاستقلالية، وفي المقابل، تخشى بكين على مصالحها التجارية عبر الممر البيلاروسي إلى أوروبا، وهو ما يجعل استقرار البلاد ضروريًا بالنسبة لها.
أمَّا بولندا، فقد أثبتت في 2024 أنها تملك أدوات ضغط فعالة، حين أغلقت حدودها مع بيلاروسيا وأجبرت مينسك على إطلاق سراح مئات السجناء بعد أن تعطّلت حركة البضائع من روسيا والصين إلى أوروبا، وتلك الخطوة كشفت هشاشة الاقتصاد البيلاروسي ومدى اعتماد لوكاشينكو على استقرار خطوط النقل.
وكشفت مصادر أنه ورغم الإفراج عن دفعات صغيرة من السجناء، فإن النظام لم ينفّذ أية إصلاحات جوهرية؛ فلوكاشينكو يفضل إخراج بعض المعتقلين إلى المنفى بدل السماح لهم بالعمل السياسي داخل البلاد، وبذلك يحقق مكاسب مزدوجة: يظهر للخارج بصفته منفتحًا، ويحتفظ داخليًا بقبضته الحديدية.
ومن المرجح أن هذا الملف بات بؤرة تقاطعٍ لمصالح متشابكة؛ فبينما ترى فيه واشنطن فرصة لفرض أجندة حقوقية وتقييد نفوذ موسكو، فإن بولندا تستغله كورقة ضغط إقليمية، كما أن الصين تعتبره عنصرًا حاسمًا لاستقرار ممراتها التجارية، بينما يوظفه لوكاشينكو كورقة مساومة ووسيلة بقاء.
لكن من دون إطلاق جميع السجناء وتنفيذ إصلاحات سياسية فعلية، سيبقى أيّ تقارب بين واشنطن ومينسك هشًا وقابلًا للانهيار في أي لحظة.