مع تصاعد التوتر في منطقة البحر الكاريبي، تجد الدول الصغيرة نفسها أمام خيار استراتيجي حساس؛ إما الانضمام إلى الحملة العسكرية الأمريكية المتصاعدة ضد فنزويلا، أو التمسك بنهج السيادة الإقليمية ورفض تحويل مياهها إلى ساحة صراع تخدم مصالح خارجية.
ففي الوقت الذي تشدد واشنطن قبضتها على المنطقة عبر تحركات بحرية وعسكرية متسارعة، يبرز انقسام غير مسبوق داخل دول الكاريبي بين مَن يدافع عن مبدأ "منطقة سلام"، ومن يفتح الأبواب أمام التدخلات الأمريكية العسكرية، وفق منصة "Globetrotter Media".
ضغط أمريكي ورفض إقليمي
منذ وصول حاملة الطائرات "يو إس إس جيرالد فورد" إلى شمال بورتوريكو، دخلت المنطقة مرحلة تصعيد غير مسبوقة.
كما يهدف التحرك الأمريكي، المدعوم بسفن هجومية إضافية، إلى الضغط على فنزويلا ورفع منسوب التهديد العسكري، في خطوة أثارت موجة قلق واسعة داخل الإقليم.
مجموعة دول الكاريبي (CARICOM)، الممثل السياسي الأبرز في المنطقة، أصدرت بيانًا واضحًا يؤكد أن الكاريبي يجب أن يبقى "منطقة سلام" وأن النزاعات لا ينبغي أن تُحل بالقوة العسكرية.
كما وجه عشرة رؤساء حكومات سابقين رسالة شديدة اللهجة شددوا فيها على ضرورة ألا تكون المنطقة "أداة في صراعات الآخرين".
لكن المفارقة الكبرى جاءت من ترينيداد وتوباغو التي رفضت التوقيع على بيان "منطقة السلام"، بعد أن أعلنت رئيسة الوزراء كاملا بيرساد-بيسيسار (KPB) دعمها العلني للعمليات العسكرية الأمريكية، بما في ذلك القتل غير المشروع لـ83 شخصًا خلال غارات جوية أمريكية استهدفت قوارب صغيرة منذ سبتمبر/ أيلول 2025.
هذا الموقف أثار تساؤلات عميقة حول دوافع ترينيداد وتوباغو في الخروج عن الإجماع الإقليمي، خاصة أن التوجه السائد داخل الكاريبي يُعارض أي تدخل عسكري أمريكي.
من "الفناء الخلفي" إلى معارك النفوذ
تاريخيًا، نظرَت واشنطن إلى الكاريبي وأمريكا اللاتينية باعتبارهما امتدادًا لنفوذها المباشر، وفق مبدأ مونرو (1823).
وقد شهدت المنطقة خلال القرنين الماضيين سلسلة واسعة من التدخلات العسكرية الأمريكية في 90% من دولها.
وبرغم محاولات دول الكاريبي منذ السبعينيات لإعلان الإقليم "منطقة سلام"، فإن التدخلات الأمريكية استمرت، من غرينادا إلى هايتي، لتُرسخ حالة من انعدام التوازن السياسي والعسكري.
ومع صعود إدارة ترامب في ولايته الثانية، عاد خطاب "الفناء الخلفي" بقوة، مدفوعًا بتوجهات أكثر عدوانية تجاه فنزويلا.
وبالتوازي، اتخذت KPB في ترينيداد وتوباغو مسارًا سياسيًا يميل نحو اليمين المتطرف، رافعةً شعار "ترينيداد وتوباغو أولًا"، ومتبنيةً خطابًا يبرّر العنف الأمريكي ضد ما وصفته بـ"قوارب تهريب المخدرات".
هذا التحول أضعف الإرث التاريخي لحزب المؤتمر الوطني المتحد (UNC) الذي تنتمي إليه KPB، وهو حزب كان لعقود رمزًا للديمقراطية الاجتماعية والتضامن الإقليمي.
حسابات ترينيداد الاقتصادية
ترينيداد وتوباغو تواجه تحديات اقتصادية حادة؛ تراجع إنتاج النفط والغاز، ونقص العملة الصعبة، وضعف التنويع الاقتصادي، وتزايد معدلات الجريمة.
ويبدو أن قيادة KPB ترى في التحالف مع واشنطن فرصة لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية قصيرة الأجل، خصوصًا عبر الاستعانة بالقوة العسكرية الأمريكية لردع شبكات التهريب الإقليمية، واستقطاب استثمارات طاقة ضخمة من شركات أمريكية، مثل إكسون موبيل، على غرار ما حدث في غيانا.
وتشير تقديرات اقتصادية إلى أن ترينيداد وتوباغو تحتاج سنويًا إلى ما بين 300 و700 مليون دولار لصيانة منشآتها البتروكيماوية، إضافة إلى 5 مليارات دولار لتطوير حقول الغاز والمياه العميقة.
ويُرجح أن KPB تأمل في أن تكافئها واشنطن سياسيًا واقتصاديًا مقابل دعمها لسياسة ترامب العسكرية.
لكن هذا الخيار يحمل كلفة سياسية باهظة؛ فهو يقوّض وحدة الكاريبي، ويُظهر الدولة كحليف عسكري لواشنطن ضد جيرانها، ويعيد إنتاج التبعية التاريخية للقوة الأمريكية.
ويبدو الكاريبي اليوم أمام مفترق حاسم: مسار أول يقود إلى عسكرة الإقليم، وتعميق التبعية لواشنطن، والعمل كامتداد لمنظومة الأمن القومي الأمريكي؛ ومسار ثانٍ يدفع نحو استقلال القرار السياسي، وتعزيز التعاون الإقليمي، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية عبر حلول سياسية وتنموية لا عسكرية.
وبين هذه الخيارات، يبقى مستقبل المنطقة رهنًا بقدرة قادتها على مقاومة ضغوط القوة الأمريكية، والتمسك برؤية "منطقة سلام" كخيار استراتيجي لا بديل عنه.