أعادت وتيرة الانتهاكات الروسية للأجواء الأوروبية مؤخرًا، أجواء الحرب الباردة؛ ما يضع حلف الناتو أمام معادلة صعبة: كيف يردّ على هذه الاستفزازات دون أن يشعل الحرب التي يسعى لتجنّبها؟
وكشف الخبراء أن مثل هذه الحوادث لم تعد استثناءً؛ إذ شهدت دول البلطيق، وبولندا، وفنلندا، ورومانيا، والسويد، والنرويج، عشرات الانتهاكات خلال العامين الماضيين، في نمط متكرر يكشف عن اختبار روسي مستمر لقدرة الناتو على الردع ووحدة صفوفه.
وفي خضم هذه المعضلة، تصاعدت الخلافات داخل الناتو؛ فقد طالبت إستونيا بتفعيل المادة الرابعة من معاهدة واشنطن، بينما حذّر الأمين العام للحلف، مارك روته، من الإفراط في اللجوء إليها خشية تمييع معناها، وهذا التباين بين مواقف دول أوروبا الشرقية، التي تعيش التهديد الروسي على حدودها، ودول أوروبا الغربية، التي تميل إلى ضبط النفس، يهدد بتقويض وحدة الموقف داخل الحلف.
ورغم التصريحات الصارمة بأن "كل شبر من أراضي الحلف سيُدافع عنه"، فإن الهوة بين الخطاب والفعل تتسع، وفيما أعلن رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك أن بلاده ستُسقط أي جسم ينتهك أجواءها "دون نقاش"، فإن وزير خارجية ليتوانيا حذر من أن تكرار هذه الحوادث يمثل "علامة خطيرة على تسرّب العدوان الروسي إلى أراضي الناتو".
غير أن الانقسام لا يقتصر على السياسة؛ فالمعضلات التقنية تكشف هشاشة دفاعات الناتو الجوية، فالحلف لا يمتلك سوى 5% من القدرات المطلوبة لتأمين أجوائه بالكامل، فيما صُممت أنظمته القديمة لمواجهة القاذفات والصواريخ عالية الارتفاع، وليس أسراب الطائرات المسيّرة منخفضة التكلفة التي يمكن إطلاقها من شاحنات أو سفن.
ويرى الخبراء العسكريون أن الردع الحقيقي يبدأ بوضع قواعد اشتباك واضحة ومعلنة: تدمير الأنظمة غير المأهولة فورًا، واعتراض الطائرات المأهولة المسلحة أو إسقاطها إذا اخترقت الأجواء بعمق، غير أن غياب التوافق داخل الحلف يترك الباب مفتوحًا أمام مبادرات أحادية من دول بما فيها بولندا أو إستونيا؛ ما قد يفجّر أزمة داخلية أشد خطرًا من التهديد الروسي ذاته.
ويعتقد محللون أن سماء أوروبا أصبحت مسرحًا لصراع الإرادات بين موسكو وحلف الناتو؛ فكل طائرة مسيّرة أو مقاتلة روسية تعبر الحدود لا تختبر فقط الرادارات والدفاعات الجوية، بل تختبر أيضًا متانة التحالف الغربي وقدرته على الحفاظ على وحدته.