أثار إحياء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قنوات اتصال منفردة مع روسيا بشأن الملف الأوكراني، تساؤلات حول مدى قدرة واشنطن على تحقيق تقدم في هذا الملف بعيدا عن أوروبا.
ورغم محاولات ترامب، ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض قبل 4 أشهر، إحداث اختراق في هذا الملف المعقد وإرساء هدنة، غير أن أصوات الرصاص ظلت أعلى من أي محاولات دبلوماسية منفردة للتسوية، دون الأوروبيين.
في هذا السياق يمكن وضع التصريح الذي صدر من برلين، الاثنين، إذ أعلنت الحكومة الألمانية أن الولايات المتحدة وافقت على "التنسيق بشكل وثيق" مع الشركاء الأوروبيين في ما يخصّ المحادثات بشأن أوكرانيا.
وفور انتهاء المكالمة الهاتفية النادرة بين ترامب ونظيره الروسي بوتين والتي دامت لساعتين، بادر الرئيس الأمريكي إلى إجراء مكالمة ثانية مع نظيريه الفرنسي إيمانويل ماكرون والفنلندي ألكسندر ستوب، والمستشار الألماني فريدريش ميرتس، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين.
وجاء في محضر المكالمة الذي نقله الناطق باسم المستشار الألماني، أن القادة "تباحثوا في الخطوات التالية" و"شدّدوا على عزمهم مواكبة أوكرانيا عن كثب في المسار الرامي إلى وقف إطلاق النار".
ورغم الإقرار بوجود بعض التباينات بين الموقفين الأمريكي والأوروبي فيما يتعلق بتصورات الحل بين كييف وموسكو، فإن التخلي الأمريكي عن الدور الأوروبي يعتبر نوعا من "السذاجة السياسية"، بحسب تعبير خبراء.
ويرى خبراء ومراقبون لملف الحرب الأوكرانية، أن ثمة عدة عوامل ومعطيات تجعل من الصعب تصور أي حل منفرد للملف بين ترامب وبوتين بمعزل عن الأوروبيين، مشيرين إلى أن الصفقات المنفردة، التي يفضلها ترامب، قد تصلح في أي قضية إلا المسألة الأوكرانية.
تجري الحرب الأوكرانية في الفناء الخلفي للقارة الأوروبية، فأوكرانيا تقع في قلب أوروبا الشرقية، وهي دولة فاصلة بين روسيا والاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني أن الجغرافيا الأوروبية، برمتها، مهددة.
ويلاحظ خبراء، في ضوء هذا التداخل الجغرافي، أن ثمة هواجس ومخاوف أمنية من احتمال امتداد الحرب إلى الدول القريبة لأوكرانيا مثل بولندا ورومانيا وسلوفاكيا، فضلا عن دول البلطيق: ليتوانيا، ولاتفيا، وأستونيا.
وبسبب هذا القرب الجغرافي تحملت الدول الأوربية تداعيات الحرب أكثر من واشنطن، وفقا لخبراء، فقد اضطرت إلى استقبال موجات ضخمة من اللاجئين، إذ نزح أكثر من 8 ملايين أوكراني نحو دول أوروبا مع ما يعني ذلك من أعباء اقتصادية، ومشكلات اجتماعية، وضغوط إدارية.
ومن الفواتير الباهظة التي تحملتها أوروبا، كذلك، جراء اندلاع الحرب، بحسب خبراء، هو ارتفاع أسعار الطاقة، فالغاز الروسي الرخيص كان يصل إلى أوروبا القريبة، وخصوصا ألمانيا، بأسعار زهيدة، قياسا بالتكلفة العالية للحصول على الغاز من أي مصدر آخر.
وأوقفت أوروبا استيراد الغاز والنفط الروسي، لا من باب الترف، وفقا لخبراء، بل لحرمان موسكو من إيرادات الطاقة، بهدف الضغط عليها.
ومن العوامل التي تجعل إقصاء أوروبا عن الملف الأوكراني "مغامرة سياسية"، بحسب تعبير خبراء، هو أن أوروبا قدمت دعما سخيا لأوكرانيا، وشمل هذا الدعم الأسلحة المتنوعة بالتوازي مع فرض عقوبات على الخصم موسكو، فضلا عن الجهود والتحركات الدبلوماسية الحثيثة لتقوية موقف كييف.
وتعتبر أوروبا الداعم الثاني بعد الولايات المتحدة لكييف، إذ قدمت دعما، بلغ منذ اندلاع الحرب، نحو 100 مليار دولار، ومن هنا من المستبعد أن توقع على أي اتفاق غير منصف، ينجز من خلف ظهرها، بحسب تأكيدات الخبراء.
ومن البديهيات السياسية كذلك في هذا السياق، كما يرى خبراء، أن أوروبا تملك أوراق قوة في أوكرانيا أكثر من أمريكا، ذلك أنها تسيطر على أراض وقواعد وطرق الإمداد التي تمر منها المساعدات نحو أوكرانيا، وبالتالي لا يمكن تجاهل أوروبا في أي تسوية محتملة.
علاوة على ذلك فإن الاتحاد الأوروبي هو تكتل اقتصادي وسياسي مؤثر، ويمكن له في حال تهميشه، أن يؤسس لبدائل من شأنها التشويش، بل وإسقاط أي صفقة منفردة، وفقا لخبراء.
من زاوية أخرى، يرى خبراء أن أي صفقة أمريكية منفردة مع روسيا دون أوروربا ستضعف حلف شمال الأطلسي، وهو ما يخدم روسيا ويحقق لها أهدافها، وهذا ما لا تريده إدارة ترامب.
من هنا يرى الخبراء أن الانفتاح الأمريكي على الروس مدروس بعناية، ويسير وفق إيقاع يتجنب أي إضعاف لمعسكر الغرب، ذلك أن روسيا ستبقى، في المنظور الاستراتيجي الأمريكي "خصما"، رغم ملامح التقارب الآنية.
ويرى المراقبون أنه حتى بمعايير "أمريكا أولا"، الشعار الذي يتمسك به ترامب، فليس من مصلحة واشنطن الانفراد بالحل في أوكرانيا، دون الأوربيين.
ويفسرون ذلك، بأن قوة أمريكا، في النهاية، تكمن في تحالفاتها التقليدية وشراكاتها المتنوعة، لا في عزلتها وانكفائها و"نرجسيتها السياسية"، إذا جاز الوصف.
ويخلص الخبراء إلى القول إن أمريكا لا يمكن لها في النهاية أن تغرد خارج السرب الأوروبي، خصوصا في الملف الأوكراني؛ لأنها تعلم أن أي اتفاقية غير موقعة من الأوربيين لن يكتب لها النجاح، ويصعب تطبيقها على أرض الواقع دون ضوء أخضر من القارة العجوز.