رغم عدم الإعلان عن تفاصيله، رأى خبراء أن لقاء باكو المباشر بين المسؤولين السوريين والإسرائيليين يُشير إلى تحول في المسار التفاوضي بين الطرفين، "بعد أشهر من الكر والفر والاستنزاف، لإعادة التشبيك والربط المباشر".
ويأتي اللقاء الذي انعقد في أذربيجان ضمن سلسلة اتصالات غير معلنة لبحث ملفات أمنية وسياسية عالقة، أبرزها مستقبل الجولان والوجود الإيراني في سوريا.
ويكشف الخبراء أن اختيار باكو، الحليف الاستراتيجي لإسرائيل، ليس صدفة، بل يعكس سعياً لتجنب الضغوط الدولية والإقليمية، بينما تُظهر السلطة السورية استعداداً لتقديم تنازلات مقابل رفع العقوبات أو شرعنة وجودها.
وتعليقاً على هذا الموضوع، قال الكاتب والباحث السياسي محمد هويدي: "ما من تفاصيل كافية حول هذا الاجتماع، لكنه مسار متكامل من عدة لقاءات حدثت سواء في إحدى الدول العربية أو في أذربيجان، وهذا يشير إلى أن هناك ترتيبات وخلافات لم تُحسم بعد".
وأضاف لـ "إرم نيوز" أن "إسرائيل حتى الآن لم تحسم قرارها في التعاطي مع السلطة الانتقالية، خاصة وأن لديها مطالب وشروطا لم تُنفذ حتى الآن، وربما تكون هذه الشروط بعيدة الأهداف، ومنها التنازل بشكل مباشر عن الجولان السوري، وأن يكون الجنوب السوري منطقة منزوعة السلاح، وكذلك عدم السماح بإنشاء قواعد تركية في سوريا بما يهدد الأمن القومي الإسرائيلي".
وأشار هويدي إلى أن هذه المبادرات قدمتها السلطة الانتقالية، ولكن على ما يبدو أن إسرائيل تريد المزيد، منوّهاً إلى أن الموفد الأمريكي توماس باراك قال إن رفع العقوبات مرتبط بالانضمام إلى الاتفاقية الإبراهيمية، وهذا يضع السلطة الانتقالية أمام خيار لا ثاني له وهو "التوقيع" وفق الخبير.
من جانبه، قال الكاتب والباحث السياسي، الدكتور مالك الحافظ، "إن اللقاء لا يمكن عزله عن سياق أوسع من الحراك غير العلني الذي تشهده المنطقة منذ عدة أشهر، وهذا اللقاء لم يكن مفاجئاً لمن تابع المسار السياسي الذي انتهجته السلطة الانتقالية، والمبني على مبدأ تدويل الشرعية عبر القنوات الإقليمية، وتجاوز المساحات الرمزية لصالح حسابات المصالح الأمنية المشتركة"، وفق قراءته.
وأضاف لـ "إرم نيوز" أن السلطة الانتقالية تبدو وكأنها تتحرك وفق منطق "الترتيب الإقليمي للأولويات"، حيث باتت العلاقة مع إسرائيل تُطرح كمجال قابل للتفاوض، حتى وإن لم يعلن ذلك رسمياً بعد، اللقاء في باكو، الذي سبقه أكثر من قناة اتصال، يُكرّس هذا التحول، ويشير إلى أن المسار لم يعد يقتصر على مجرّد "رسائل متبادلة"، بل انتقل إلى مرحلة التنسيق المباشر، على الأقل في الملفات الأمنية الحساسة.
وأشار إلى أن اللقاء لم يحدث في سياق تفاوضي تقليدي أو برعاية دولية واضحة، بل تم ضمن زيارة ثنائية لأذربيجان، ما يضيف إلى اللقاء بعداً تقنياً يُراد له أن يبدو طبيعياً أو عرضياً، رغم طبيعته الاستثنائية سياسياً، واختيار باكو تحديداً، وهي عاصمة ترتبط بعلاقات وثيقة مع إسرائيل وتستضيف بشكل متكرر لقاءات على مستوى حساس لم يكن تفصيلاً هامشياً، بل جزءاً من مشهد إقليمي يتغير بسرعة، ويُعاد فيه رسم تموضع الفاعلين المحليين ضمن توازنات جديدة.
وأوضح أن ما جرى في هذا اللقاء يتجاوز كونه اختباراً رمزياً للسلطة الانتقالية، ليصبح كاشفاً لنية مبكرة في إعادة تعريف طبيعة العلاقات مع القوى الفاعلة في الإقليم، دون أن تسبق ذلك مشاورة وطنية، أو إنتاج رؤية داخلية لسوريا ما بعد الحرب.
وأشار إلى أن "المفاوضات الأمنية، حين تجري في ظل غياب واضح لمؤسسات ديمقراطية أو أطر مساءلة، غالباً ما تُنتج نماذج هشّة من الاتفاقات، تبدو من الخارج بوصفها تسويات، لكنها من الداخل تُفضي إلى اختلالات في موازين السيادة والقرار".
وبيّن أن اللقاء "يكشف عن نمط تفكير داخل السلطة الجديدة يقوم على أولوية تثبيت الحكم وتحييد مصادر التهديد المباشر، ولو كان ذلك عبر تفاهمات غير متكافئة"، مضيفا: "يؤكد أيضا أن إسرائيل ليست مجرد طرف مراقب لما يجري في سوريا، بل تتحرك في الوقت الحالي لتأمين موطئ قدم في بنية التحالفات الجديدة التي تتشكل في مرحلة ما بعد الأسد"، على حد قوله.
ولفت إلى أن "إسرائيل باتت تتفاوض مع الحكومة السورية، بعد أشهر من الاستنزاف والاقتتال، لإعادة التشبيك والربط المباشر"، وفق تعبيره.
واختتم الحافظ حديثه بالقول: "اللقاء في باكو يُقرأ كجزء من مسار متدرج تسلكه السلطة الانتقالية لإعادة إنتاج موقع سوريا في خريطة التوازنات الإقليمية".
