في مواجهة تتسم بتصاعد التوتر السياسي والدبلوماسي، أعاد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الكرة مجددًا إلى ملعب واشنطن، بعدما جدد رفضه القاطع لأي تنازل عن الأراضي الأوكرانية لصالح روسيا، فاتحًا الباب أمام سلسلة من السيناريوهات الأمريكية المحتملة، تتراوح بين الضغوط المالية والمفاوضات الثنائية مع موسكو، وصولًا إلى البحث عن بديل سياسي لزيلينسكي.
وأكد زيلينسكي بوضوح أن كييف لا تمتلك أي حق قانوني أو أخلاقي للتنازل عن أراضٍ أوكرانية، قائلاً: "هل نفكر في التنازل عن أراضٍ؟ ليس لدينا أي حق قانوني لفعل ذلك، لا بموجب القانون الأوكراني ولا دستورنا ولا القانون الدولي".
وجدد أندريه يرماك، رئيس مكتب الرئاسة الأوكرانية، التأكيد على الموقف ذاته، قائلاً: "أي شخص عاقل لن يوافق اليوم على التنازل عن الأرض، وزيلينسكي لن يقوم بذلك ما دام رئيسًا للبلاد، فالدستور يمنع التنازل عن الأراضي".
في المقابل، واصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انتقاداته الحادة لزيلينسكي، واصفًا إياه بـ"البائع الماهر وبائع الأوهام"، مشيرًا إلى أن أوكرانيا حصلت على مبالغ ضخمة دون تحقيق نتائج ملموسة، معتبرًا أن روسيا تمتلك اليد العليا ميدانيًّا.
ورأى ترامب أن زيلينسكي يشكل العقبة الأساسية أمام التوصل إلى اتفاق سلام، معتبرًا أن الرئيس الأوكراني لم يطّلع على المقترح الأمريكي بما يكفي، ومشدّدًا على ضرورة تعاون كييف لتجنب المزيد من الخسائر.
وخلال مكالمة هاتفية مطوّلة، حاول جاريد كوشنر، صهر ترامب ومبعوثه الخاص، الحصول على موافقة واضحة من زيلينسكي على مقترح التسوية، بما في ذلك التنازل عن إقليم دونباس. وقد مُنح الرئيس الأوكراني مهلة قصيرة للرد على المقترح الذي يتضمن اعترافًا أوكرانيًّا بفقدان بعض الأراضي مقابل وعود أمنية غير كافية للانضمام إلى "الناتو".
وتشير التقديرات إلى أن واشنطن قد تلجأ إلى تصعيد الضغوط المالية على أوكرانيا، سواء عبر وقف أو تقليص المساعدات العسكرية، أو تعليق حزم الدعم، في محاولة لدفع كييف إلى القبول بالخطة الأمريكية، وهي خطوة قد تخدم موسكو وتضعف موقف زيلينسكي.
ويرى الخبراء أن زيلينسكي يضع واشنطن أمام "كرة نار" جديدة برفضه الضغوط الأمريكية وامتناعه عن تقديم أي تنازل يتعلق بالأراضي، بينما يعتبر آخرون أن ترامب سيلجأ إلى ورقة الانتخابات والضغط المباشر على كييف لفرض مسار سلام جديد.
ويؤكد محللون أن الموقف الأوكراني يستند إلى مبدأ دستوري يحظر الاعتراف بسيادة روسيا على أي جزء من الأراضي، وأن غياب الضمانات الدولية يجعل التوصل إلى حلول وسط أمرًا صعبًا لكنه ضروري في المرحلة الراهنة.
وقال ماركو مسعد، عضو مجلس الشرق الأوسط للسياسات في واشنطن، إن المشهد بات واضحًا: زيلينسكي يناور أو يماطل، كما قال، ولن يقبل بالضغوط الأمريكية حاليًّا، تجنبًا لحكم تاريخي بأنه فشل في حماية أراضي بلاده.
وأشار مسعد، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، إلى وجود ملفات فساد داخل الدائرة المقربة من زيلينسكي وإلى غياب الانتخابات، معتبرًا أن مصلحة الرئيس الأوكراني تكمن في استمرار الحرب، حتى لو خسر المزيد من الأراضي.
ويرى مسعد أن زيلينسكي يحاول تقديم نفسه كـ"بطل قومي يتمسك بالأرض"، لكن استمرار الحرب يمنح أطرافًا أخرى فرصة لاستخدام أوراق ضغط جديدة، من بينها الورقة التي لوّح بها ترامب. وأوضح أن الرئيس الأمريكي قد يغيّر سياسته بين التهديد والضغط المباشر، وربما السعي إلى تغيير زيلينسكي إذا اعتقد أنه يشكل عائقًا أمام تحقيق السلام.
وأضاف أن إعلان زيلينسكي استعداده لإجراء انتخابات خلال 60 إلى 90 يومًا لا يلغي احتمال توجُّه ترامب نحو فكرة التغيير، في ظل الجدل القائم حول شرعية الرئيس الأوكراني.
وأكد مسعد أن ورقة الانتخابات أو تغيير زيلينسكي تُستخدم كأداة ضغط، وتُعلّق عند ظهور بوادر تعاون، لكنها تعود إلى الواجهة اليوم بسبب ممانعة كييف التي قد تعرقل خطط ترامب الاقتصادية ومسار التقارب مع روسيا، خاصة مع رجال الأعمال الأمريكيين والروس المشاركين في المفاوضات.
وقال إن ترامب لا يدخل المفاوضات لمجرد التفاوض، بل لتحقيق "إنجاز"، وهو مستعد لفعل ما يلزم للتوصل إلى اتفاق مع كييف ومع الأوروبيين.
في المقابل، يرى عماد أبو الرب، رئيس المركز الأوكراني للتواصل والحوار، أن مسار المفاوضات الروسية ـ الأوكرانية بوساطة أمريكية يسير في طرق "معقدة ومسدودة". وأوضح، لـ"إرم نيوز"، أن المواقف الحالية تكشف عن فجوة واضحة بين الأطراف، وأن واشنطن لم تنجح حتى الآن في إقناع كييف بمقترحاتها أو ببرامج الحل المطروحة.
وأكد أبو الرب أن كييف ما تزال متمسكة بوحدة وسيادة أراضيها وترفض التفريط بأي جزء منها، وترفض الاعتراف بسيادة روسيا على أي منطقة تحتلها القوات الروسية، مع التشديد على ضرورة الحصول على ضمانات دولية تحمي البلاد من أي اعتداءات مستقبلية.
وأشار إلى أن غياب هذه الضمانات يجعل الرسالة الأوكرانية الأخيرة موجهة لواشنطن وموسكو في آنٍ واحد، فنجاح ترامب في إنهاء الحرب يتطلب مراعاة المطالب الأوكرانية الأساسية.
وأوضح أبو الرب أن أي مسؤول أوكراني، بمن فيهم الرئيس، لا يمتلك صلاحية دستورية للاعتراف بسيادة روسيا على أي متر من الأراضي الأوكرانية، وهو مبدأ يشكل حجر الأساس في الموقف الرسمي.
وأعرب عن أمله في التوصل إلى حلول وسط أكثر واقعية، قد تشمل الاعتراف بالأوضاع القائمة باعتبارها "أمرًا واقعًا" دون الاعتراف بالسيادة الروسية، شريطة الاتفاق على توصيف قانوني واضح للمناطق المحتلة.