أكد ديميتري بريجع، مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، أن موسكو تنظر إلى استقبال واشنطن للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي باعتباره محاولة لإعادة إحياء الزخم السياسي والإعلامي للحرب الأوكرانية، في لحظة تراجع فيها الاهتمام الغربي بالقضية، مشيراً، في حوار مع "إرم نيوز"، إلى أن الحديث عن دعم كييف بصواريخ "توماهوك" يضع العلاقة الروسية الأمريكية أمام منعطف جديد؛ لأن هذه الصواريخ تمثِّل في نظر موسكو نقلة نوعية تجعل واشنطن طرفًا مباشرًا في الصراع.
وأضاف بريجع أن روسيا أصبحت أكثر وضوحًا في تحديد الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها، وأنها مستعدة للتعامل مع أي تصعيد أمريكي أوكراني باستراتيجية ردع وقائي، تشمل ضرب القدرات قبل دخولها الخدمة فعليًّا، إلى جانب تطوير قدراتها الدفاعية والهجومية في آن واحد.
وأوضح أن موسكو لا ترفض فكرة التفاوض لكنها لن تقبل بأي تسوية تُفرض وفق شروط أمريكية تتجاهل الواقع الميداني الجديد..
وإلى نص الحوار..
موسكو تنظر إلى هذا اللقاء من زاويتين متكاملتين.. الأولى سياسية، إذ ترى فيه واشنطن محاولة لتجديد المبرر الأخلاقي للدعم الغربي لكييف بعد أن تراجع الاهتمام الدولي بالحرب، خصوصًا في ظل تساؤلات الرأي العام حول جدوى استمرار الإنفاق العسكري.
أما الثانية فهي أمنية، إذ تعتبر روسيا أن الحديث عن "توماهوك" تصعيد خطير يتيح لأوكرانيا لأول مرة استهداف العمق الروسي بمدى يتجاوز الألف كيلومتر، وهو ما يعد من منظور الكرملين انتهاكًا مباشرًا للسيادة الروسية وخطوة استفزازية تجعل واشنطن طرفًا فاعلًا في الحرب لا مجرد داعم لها.
ستتعامل موسكو مع هذه التطورات ضمن ما تسميه "الردع الوقائي"، أي ضرب القدرات الجديدة قبل تشغيلها. ومن المرجح أن تركز على 3 مسارات: أولًا، تنفيذ هجمات صاروخية ومسيّرة مكثفة ضد مراكز النقل والتجميع ومستودعات الأسلحة، خاصة على الحدود البولندية الأوكرانية.
ثانيًا، تصعيد الحرب الإلكترونية لتعطيل أنظمة التوجيه والاتصالات المدعومة بالأقمار الصناعية الغربية. وأخيرًا، تعزيز الدفاعات الجوية في المناطق الحساسة مثل بيلغورود وكورسك وشبه جزيرة القرم.
تعتبر موسكو تصريحات ترامب هي إقرار غير مباشر بأن واشنطن وصلت إلى طريق مسدود سياسيًّا وميدانيًّا، وأنها لم تعد قادرة على فرض معادلة تحقق مصالحه، كما ترى موسكو أن ترامب يحاول توظيف هذا الملف لإظهار نفسه كرجل قادر على "إنهاء الحرب" في مقابل إدارة بايدن التي تُتهم بإطالة الصراع.. ولكنها في الوقت نفسه تقرأ هذه التصريحات كدليل على تصدع الموقف الأمريكي الداخلي، وهو ما يمكن توظيفه لصالح روسيا إعلاميًّا وسياسيًّا.
لم تتغير الخطوط الحمراء الروسية كثيرًا، لكنها أصبحت أكثر تحديدًا، فهي تشمل إدخال أسلحة قادرة على ضرب العمق الروسي مثل التوماهوك، أو إشراك عسكريين غربيين بشكل مباشر في تشغيلها، أو استهداف الأراضي التي أعلنت موسكو ضمها رسميًّا، إضافة إلى نشر قواعد دائمة لحلف الناتو في غرب أوكرانيا.
الكرملين يدرك أن تكرار التحذيرات دون تحرك يضعف المصداقية، لذلك يُتوقع أن تكون ردوده المقبلة انتقائية ومحسوبة، عبر ضرب منصات الإطلاق قبل تشغيلها أو تنفيذ ضربات تحذيرية قريبة من مناطق حيوية دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة.
الحديث عن تباطؤ الزخم الروسي يجب فهمه في سياق التحول الاستراتيجي للحرب، خاصة وأن روسيا انتقلت من مرحلة الهجوم السريع إلى الحرب الطويلة منخفضة الوتيرة التي تهدف إلى استنزاف الخصم سياسيًّا واقتصاديًّا.
وبعد تحقيق مكاسب واسعة في الشرق والجنوب، بدأت بإعادة تموضع قواتها لتأمين خطوط الإمداد والاستعداد لفصل الشتاء الذي تعتبره دائمًا موسم تفوقها العسكري. لذلك؛ ما يبدو تراجعًا ميدانيًّا هو في الواقع إعادة توزيع محسوبة لقواتها استعدادًا لمرحلة جديدة.
روسيا لا ترفض مبدأ التفاوض لكنها ترفض الدخول في عملية تفاوض تُدار بشروط أمريكية، ومن وجهة نظرها فأن أي تسوية يجب أن تعترف بالواقع الميداني الجديد وبسيادتها على الأراضي التي تسيطر عليها.
وتطالب موسكو بضمانات مكتوبة تمنع انضمام أوكرانيا للناتو، وترفع العقوبات تدريجيًّا كجزء من أي اتفاق، وفي المقابل، هي منفتحة على ترتيبات إنسانية وتبادل للأسرى ووقف إطلاق نار مؤقت، شرط ألا يكون هدف التفاوض إنقاذ الموقف الأمريكي.
تسعى موسكو عبر هذه الهجمات إلى تقويض القدرات اللوجستية والعسكرية الأوكرانية التي تعتمد على الطاقة في تشغيل المصانع ومراكز القيادة والنقل، كما تهدف إلى ممارسة ضغط نفسي على المواطنين لتقليل الحاضنة الشعبية للحرب.
ومن جانب آخر، هي رسالة للغرب مفادها أن استمرار الدعم العسكري سيقود إلى دمار أوسع ستتحمل دوله تكلفة إعادة إعماره مستقبلاً.
تتعامل موسكو مع الورقة النووية باعتبارها أداة ردع سياسية أكثر منها خيارًا عسكريًّا، خاصة وأنها تدرك أن استخدامها سيؤدي إلى كارثة شاملة، لكنها تلوّح بها لتذكير الغرب بحدود المجازفة، وأن هذا الخطاب النووي هدفه رفع سقف الردع والتأكيد على أن تجاوز الخطوط الروسية قد يفتح سيناريوهات لا يمكن السيطرة عليها، دون أن يعني ذلك نية حقيقية لاستخدام السلاح النووي.