لم تعد تحذيرات موسكو مجرد رسائل عابرة في "لعبة شدّ الحبال" مع الغرب، بل تحولت إلى إعلان صريح من فلاديمير بوتين بأن العالم يقف على أعتاب مرحلة جديدة عنوانها سقوط الهيمنة الغربية وصعود نظام متعدد الأقطاب.
في المقابل، يجد الأوروبيون أنفسهم في قلب اختبار وجودي بين تهديدات الكرملين وتراجع المظلة الأمريكية، فيما تلوّح واشنطن بخيارات عسكرية واقتصادية تجعل من أوكرانيا ساحةَ صراع مفتوح.
وشدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أن "انهيار الهيمنة الغربية مسألة وقت"، مؤكدًا أن العالم يعيش لحظة تغييراتٍ سريعة لا يمكن تجاهلها، وأن بلاده أثبتت قدرتها على الصمود أمام العقوبات الغربية والأزمات غير المسبوقة، وأن أيّ قوة لن تتمكن بعد الآن من فرض سيطرةٍ مطلقة على العالم.
وحذّر بوتين من أن تزويد أوكرانيا بصواريخ "توماهوك" الأمريكية بعيدة المدى سيشكل تصعيدًا جديدًا وخطيرًا، مشددًا على أن استخدام هذه الصواريخ يتطلب مشاركةً عسكرية أمريكية مباشرة.
واستحضر بوتين التاريخ الروسي مذكّرًا بدور الاتحاد السوفيتي في هزيمة النازية، ومؤكدًا أن روسيا ستظل قوةً أساسية في النظام الدولي.
وبين تصريحات القوة ورسائل الردع، يتبدّى أن النظام الدولي يتحرك سريعًا نحو لحظةٍ فارقة قد تعيد رسم موازين القوى، ويبقى السؤال الأبرز: هل بدأت المواجهة الروسية الأوروبية وانتهى عصر الهيمنة الغربية؟
وقال الأكاديمي والدبلوماسي المتخصص في شؤون أوروبا الشرقية، الدكتور ياسين رواشدي، إن "تصريحات بوتين أقرب إلى الدعاية السياسية منها إلى توصيف الواقع، فالواقع يؤكد أن الغرب ما يزال قويًا، وإن لم يعد كتلةً واحدة كما في السابق.
وقال رواشدي لـ"إرم نيوز" إن "صعود سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانعزالية دفع أوروبا إلى التفكير في مسارٍ مستقل، وهو ما قد يقود إلى نشوء قطبٍ أوروبي مختلف عن الولايات المتحدة، الأمر الذي قد يشكل تحولًا إيجابيًا على الساحة الدولية".
وأضاف أن "فكرة وجود قطبٍ روسي أو صيني تقليدي غير ممكنة الآن، فالاتحاد السوفيتي كان قطبًا؛ لأنه ضم أوروبا الشرقية وأجزاء من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، بينما ظلت الصين قوةً اقتصادية عظمى لم تتحول بعد إلى قوةٍ سياسية كاملة، بل تبدو غير راغبةٍ في لعب هذا الدور".
وأشار رواشدي إلى أن "أحداث غزة الأخيرة أظهرت محدودية روسيا والصين، إذ اكتفتا بمواقف شكلية ولم تظهرا أي تدخلٍ فعلي"، معتبرًا أن روسيا تظل دولةً قومية منغلقة تبحث عن مصالحها فقط، وضرب مثالًا بتراجعها عن دعم النظام السوري سريعًا حين رأت ذلك مكلفًا، وبمحدودية دعمها لإيران رغم الخطاب الودي.
وشدد على أن "الحديث عن تعددية الأقطاب فيه مبالغة، وأن التعددية الوحيدة الممكنة الآن هي بروز أوروبا كقطبٍ مستقل، بفضل سياسة ترامب التي دفعتها إلى التفكير باستراتيجياتٍ جديدة".
وأقر بأن أوروبا نفسها ليست كتلةً متجانسة، إذ تتباين مواقف دولها، مثل تركيا والمجر وسلوفاكيا، تجاه روسيا وحلف الناتو، مؤكدًا أن العالم بحاجةٍ إلى وقتٍ أطول لتتشكل تعدديةٌ حقيقية، وربما تظهر الصين مستقبلًا كقوةٍ عظمى جديدة، لكن الطريق ما زال طويلًا نحو نظامٍ متعدد الأقطاب متماسك.
من جانبه، رأى المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، الدكتور سمير أيوب، أن "خطاب بوتين لم يتضمن إعلان مواجهةٍ مباشرة مع الغرب، بل كان أقرب إلى تحذير ودعوة لإعادة التوازن في السياسة الدولية".
وأضاف أيوب لـ"إرم نيوز" أن "بوتين ركز على 3 قضايا رئيسة: الأزمة الأوكرانية، والعلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة، ومسألة تهديد إمدادات الطاقة الروسية، فقد احتجزت بعض الدول الأوروبية بواخر بتهمة تهريب النفط".
وأشار إلى أن "بوتين لم يعلن انتهاء سياسة القطب الواحد صراحةً، مشددًا على أن روسيا تعمل مع دول مثل الصين والبرازيل وإيران ومصر لمواجهة الهيمنة الأمريكية".
وأضاف أيوب أن "الغرب لم يعترف بعد بأن هذه السياسة الأحادية أدت إلى حروب وأزمات عالمية، وعلى رأسها الحرب في أوكرانيا التي تهدد باشتعال مواجهةٍ واسعة".
وأكد أيوب أن "موسكو قادرةٌ على الرد بما يتجاوز الساحة الأوكرانية، مستهدفةً قواعد عسكرية قد تُستخدم ضدها"، معتبرًا أن استهداف الطائرات أو السفن الروسية سيكون بمثابة "لعبٍ بالنار" قد يقود إلى حرب شاملة.
وأضاف أن "واشنطن وأوروبا تحاولان احتواء روسيا عبر أدواتٍ عسكرية واقتصادية، لكن موسكو، ومعها دولٌ أخرى، تسعى إلى إعادة التوازن من خلال نظام متعدد الأقطاب قائم على احترام السيادة".
واعتبر أن "خطاب بوتين تضمن رسالةً مزدوجة: التهديد يقابله تهديد، لكن اليد الممدودة للسلام تقابلها يدٌ أخرى للسلام، في إشارةٍ إلى أن روسيا مستعدةٌ للحوار إذا تراجع الغرب عن سياسة الاحتواء والتصعيد" وفق قراءته.