مع مرور أكثر من عام على تولّي حكومة مسعود بزشكيان مهامها، باتت مؤشرات تآكل الإجماع السياسي والمؤسسي المحيط بالحكومة أكثر وضوحًا.
وتسلّمت حكومة بزشكيان السلطة في ظل واقع معقّد يتّسم بتضخم مزمن، وتراجع في الثقة العامة، وضغوط العقوبات، واختلالات في الموازنة، وأزمات في قطاع الطاقة، وتراجع رأس المال الاجتماعي.
وفي مثل هذه الظروف، كان بناء حدٍّ أدنى من الإجماع بين مؤسسات الحكم والنخب السياسية وشرائح من الرأي العام شرطًا أساسيًّا لإطلاق أي مسار إصلاحي.
وقال المحلل السياسي المقرّب من التيار المعتدل رحيم زياد علي، إن "الإجماع الذي طرحته حكومة بزشكيان كان منذ البداية هشًّا ومشروطًا، فقد برزت الخلافات حول تركيبة الحكومة، وإدارة الملف الاقتصادي، وطريقة التعامل مع العقوبات، إضافة إلى أولويات ثقافية واجتماعية أخرى".
وأضاف علي، لـ"إرم نيوز"، أنه "مع مرور الوقت، بدأت ملامح التباعد بين الحكومة وبعض مراكز القرار، وحتى داخل القاعدة الاجتماعية الداعمة لها، بالظهور بشكل أوضح".
وأوضح أن "الإصلاحيين الذين دعموا بزشكيان هم أنفسهم الذين يريدون إقالته. فعندما طلب الإصلاحيون من الرئيس التفاوض مع الولايات المتحدة، جاء رد بزشكيان حادًّا إلى درجة بدا معها وكأنه يقول لهم صراحة: إما أنكم لا تفهمون شيئًا، أو أنكم خونة! إذ قال: عندما تطالبنا أمريكا بالتخلي عن صواريخنا، فهي تطالبنا بأن نجعل أنفسنا بلا دفاع، كما حدث في غزة، لكي تفعل بنا ما فعلته هناك".
وتابع أن بزشكيان "أكد بوضوح أنه لن يرضخ للمقترحات الأمريكية، ولن يقدّم تنازلات لواشنطن، ولا للإصلاحيين الذين يردّدون خطابها. وإذا أردنا أن نفهم لماذا يهاجم الإصلاحيون بزشكيان منذ أكثر من عام، ولماذا يلوّحون باستقالته أو يهدّدونه بأن أيامه معدودة، فعلينا التوقف عند هذه النقطة تحديدًا".
ويرى الكاتب أن إصرار التيار الإصلاحي على تحميل إيران مسؤولية كل الأزمات، وإلقاء كرة التفاوض دائمًا في ملعب طهران، لا يخرج عن احتمالين: إما الجهل بأبجديات السياسة، أو الخيانة الناتجة عن الارتهان للغرب، والاحتمال الثاني هو الأقرب إلى الواقع. وإلا، فأي عاقل يمكن أن يراهن على رئيس أمريكي مزّق الاتفاق النووي بيده، ثم ينتظر منه "انفراجة" عبر التفاوض؟
وأضاف أن "الرئيس الأسبق حسن روحاني حاول استثمار هذا الاجتماع للضغط على الحكومة، فدعا وزراءه السابقين إلى الاصطفاف إعلاميًّا للقول إن باب التفاوض ما زال مفتوحًا، زاعمًا أن الانسداد في السياسة الخارجية غير مقبول، وهو خطاب ضخمته وسائل الإعلام الإصلاحية".
وكتبت صحيفة "هم ميهن" منتقدة إقصاء محمد جواد ظريف، واصفة إياه بـ"أكثر الدبلوماسيين الإيرانيين فهمًا لأمريكا"، معتبرة أن خروجه جاء في توقيت حساس، "كجيش يُقصى قائده في يوم المعركة".
من جانبه، يقول الخبير في الشؤون الاقتصادية والمالية الإيراني همايون دارابي، إن التحدي الذي تواجهه الحكومة والطبقة السياسية والنظام الحاكم في البلاد هو "الأزمة الاقتصادية والمعيشية".
ويرى في حديثه، لـ"إرم نيوز"، أن "الاقتصاد يبقى التحدّي الأبرز أمام حكومة بزشكيان، حيث تجد نفسها أمام خيارين كلاهما صعب: إما إصلاحات هيكلية مؤلمة، أو الاستمرار في السياسات القائمة والدخول في ركود طويل الأمد".
وقال إن "الإصلاح الحقيقي للاقتصاد الإيراني يتطلّب قرارات عالية الكلفة، تشمل إصلاح نظام الدعم، وإعادة تسعير الطاقة، وتقليص عجز الموازنة، وإصلاح النظامين المصرفي والضريبي، وتعزيز الشفافية في الشركات الحكومية وشبه الحكومية. غير أن تنفيذ هذه الخطوات دون إجماع سياسي ودعم اجتماعي كافٍ قد يؤدّي إلى سخط شعبي واسع واضطرابات اجتماعية".
وأضاف أن "تأجيل الإصلاحات والاكتفاء بسياسات قصيرة الأمد قد يجنّب البلاد صدمات فورية، لكنه يضعها على مسار ركود مزمن، وتراجع الاستثمار، وازدياد البطالة المقنّعة، وتآكل القدرة الشرائية للمواطنين".
وأكد أن "المجتمع الإيراني، بعد سنوات من الضغوط الاقتصادية وعدم الاستقرار، يواجه اليوم حالة من الإرهاق الاجتماعي المتزايد، فالطبقة الوسطى آخذة في الانكماش، والفجوة الطبقية في اتّساع، بينما تتراجع الثقة العامة بالخطاب السياسي والوعود الحكومية".
بدوره، يرى عضو البرلمان الإيراني كامران غضنفري، أن "حكومة بزشكيان جاءت بشعار التعامل العقلاني مع العالم، إلا أن الواقع السياسي والإقليمي يشير إلى أن هوامش الحركة في السياسة الخارجية لا تزال محدودة. فاستمرار العقوبات، وتعقّد المفاوضات، وتصاعد التوترات الإقليمية، كلها عوامل تُقيّد قدرة الحكومة على تحقيق انفراج اقتصادي سريع".
وقال غضنفري، لـ"إرم نيوز"، إن "أي إصلاح اقتصادي داخلي من دون حدٍّ أدنى من الانفراج الخارجي سيحمل معه أعباء اجتماعية مضاعفة، ما يزيد الضغط على الإجماع الداخلي الهشّ"، مضيفًا أن "حكومة بزشكيان تقف أمام سؤال جوهري: هل تستطيع تقديم خطاب مقنع يشرح ضرورة الإصلاحات ويهيّئ الرأي العام لتحمّل تكاليفها قصيرة الأمد؟ أم أن غياب الإجماع وضعف التواصل مع المجتمع سيحوّلان مسار الإصلاح إلى مشروع متعثّر؟".
وأوضح أنه "استنادًا إلى المعطيات الراهنة، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسة لمسار حكومة بزشكيان: إما سيناريو الإصلاح المُدار، وإعادة بناء حدٍّ أدنى من الإجماع، وتنفيذ إصلاحات تدريجية مصحوبة بإجراءات دعم اجتماعي، مع إدارة واعية للرأي العام".
ويرى أن "السيناريو الثاني هو الركود الطويل، وتأجيل الإصلاحات الكبرى، والحفاظ على استقرار شكلي، مقابل الدخول في مرحلة نمو ضعيف واستياء اجتماعي صامت"، مبيّنًا أن "السيناريو الثالث هو أزمة الإجماع، حيث تتعمّق الخلافات السياسية، وتراجع إضافي في رأس المال الاجتماعي للحكومة، وعجز عن اتخاذ قرارات استراتيجية".
ويختم النائب الأصولي المتشدد بأن "حكومة بزشكيان تقف اليوم عند منعطف حاسم. ففقدان الإجماع لا يضعف قدرة الحكومة على اتخاذ القرار فحسب، بل يرفع كلفة كلّ خيار، سواء كان الإصلاح أو الإبقاء على الوضع القائم".
بدوره، انتقد الكاتب الإيراني مسيح مهاجري مشروع "الوفاق الوطني"، معتبرًا أنه تحوّل من فرصة لتعزيز الحكم الرشيد إلى غطاء لتكريس تدخل نواب البرلمان في عمل السلطة التنفيذية، ولا سيما في التعيينات الإدارية بالمحافظات.
وحذّر مهاجري في حديثه، لـ"إرم نيوز"، من أن هذه الممارسات تمثل خرقًا صريحًا لمبدأ الفصل بين السلطات المنصوص عليه دستوريًّا، وتؤدي إلى تهميش الكفاءة وسيادة القانون.
وأشار إلى أن التدخل البرلماني غالبًا ما يتخذ شكل ضغوط وتهديد بالاستجواب لتحقيق مصالح شخصية، منوّهًا إلى أن ما كان يُنتظر من حكومة الرئيس بزشكيان هو وضع حد لهذه الظاهرة، لا توسيعها تحت شعار "الوفاق".
وختم بالتأكيد أن استمرار هذا النهج يهدّد أسس الحوكمة ويقوّض ثقة المجتمع بالدولة، داعيًا إلى احترام مبدأ "كل سلطة في موقعها".