في خطوة وُصفت بأنها الأخطر على منظومة عدم الانتشار منذ عقود، حصلت كوريا الجنوبية على ضوء أخضر أمريكي لبناء غواصات تعمل بالطاقة النووية، وفق ما أُعلن خلال لقاء جمع رئيسي البلدين على هامش قمة "أبيك" في سيول.
القرار يفتح الباب أمام انضمام كوريا الجنوبية إلى نادي الدول القليلة التي تمتلك هذا النوع من القدرات، والذي يضم الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا والمملكة المتحدة والهند، بحسب مجلة " Modern Diplomacy".
غير أن ما يمنح التطور بُعده الاستثنائي ليس الجانب التقني بقدر ما هو التداعيات الاستراتيجية والنووية المحتملة.
إعادة تشكيل معادلة الردع في ظل صعود كوريا الشمالية
تنامي الترسانة النووية لكوريا الشمالية، وتأكيد بيونغ يانغ أنها أصبحت "دولة نووية لا رجعة فيها"، دفع شرائح واسعة من المجتمع الكوري الجنوبي للمطالبة ببناء قدرة ردع ذاتية.
فوفق استطلاعات حديثة، يؤيد أكثر من 70% من المواطنين امتلاك أسلحة نووية محلية، بينما تُفضّل النخب السياسية الإبقاء على خيار "الكمون النووي"، أي امتلاك القدرة على تصنيع السلاح في غضون أشهر دون اتخاذ قرار فعلي بذلك.
تملك كوريا الجنوبية اليوم معظم مقومات هذه القدرة، من البنية التحتية إلى الخبرات، لكنها تفتقر إلى العنصر الحاسم: المواد الانشطارية.
وتوفّر الغواصات النووية، بشكل غير مباشر، هذا العنصر عبر ما يتيحه القانون الدولي من استثناءات للمفاعلات البحرية.
ثغرة قانونية تهدّد النظام العالمي لعدم الانتشار
تكمن خطورة القرار في ثغرة موجودة في معاهدة عدم الانتشار النووي، تسمح للدول غير النووية بسحب المواد الانشطارية المستخدمة في "الأنشطة العسكرية غير المحظورة"، مثل المفاعلات البحرية، من رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ وبذلك يمكن لسيول نظريًّا تحويل مواد الوقود الخاصة بغواصاتها النووية إلى برنامج أسلحة.
السوابق الدولية في هذا المجال محدودة للغاية؛ فالدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافة إلى الهند غير الموقعة على المعاهدة، هي فقط من يمتلك غواصات هجومية تعمل باليورانيوم عالي التخصيب.
وأستراليا، رغم دخولها في مشروع "أوكوس"، لا يُنظر إليها باعتبارها دولة ذات نوايا نووية، إذ تفتقر للدوافع والقدرات لإنتاج سلاح نووي.
بالمقابل، كوريا الجنوبية تملك الدافع الاستراتيجي، والقدرة التقنية، والجمهور المؤيد. وهذا ما يجعل خيار الغواصات النووية أخطر بكثير من الحالة الأسترالية.
واشنطن بين خيارين أحلاهما مُكلِف
يمكن لواشنطن دعم سيول تقنيًّا عبر مسارين رئيسيين، لكن كليهما يحمل مخاطر انتشار نووي.
الخيار الأول هو تزويدها بوقود منخفض التخصيب بنسبة 20%، وهو ترتيب مشابه لـ"أوكوس"، ولا يتطلب تعديل اتفاقية التعاون النووي، لكنه يفتح الباب لاحتمال تحويل الوقود لاحقًا إلى مادة صالحة لإنتاج سلاح نووي.
أما الخيار الثاني فيتمثل في السماح لكوريا الجنوبية بالتخصيب وإعادة المعالجة عبر تعديل اتفاقية 123، وهو امتياز لا تملكه سوى اليابان.
ومنح سيول هذا الحق يعني عمليًّا تمكينها من امتلاك القدرة التقنية لإنتاج سلاح نووي خلال فترة قصيرة.
في كلتا الحالتين، يضع القرار الولايات المتحدة في موقف معقد: فهي تساعد حليفًا رئيسيًّا في ردع التهديد الكوري الشمالي، لكنها تفتح الباب أمام سباق تسلّح نووي جديد في آسيا وربما أبعد منها.
تأثيرات تتجاوز آسيا
تعمل الدول الصاعدة تقنيًّا، مثل البرازيل وتركيا، بالفعل على تطوير غواصات نووية، مستندة إلى مشاريع محلية مثل "ألفارو ألبرتو"، و"نوكدن".
كما عبّرت إيران مرارًا عن رغبتها في بناء غواصات نووية، رغم غياب برنامج فعلي حتى الآن.
تفعيل استراتيجية "الكمون النووي" تحت غطاء الغواصات يخلق سابقة قد تستغلها هذه الدول، مما يضغط على نظام عدم الانتشار الذي تقوده واشنطن منذ نصف قرن، والذي نجح حتى الآن في إبقاء السلاح النووي محصورًا في عدد محدود من الدول.
قرار واشنطن بمنح سيول القدرة على بناء غواصات نووية لا يغيّر فقط معادلة الردع في شرق آسيا، بل يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من سباق التسلّح، حيث يمكن للدول أن تتقدم نحو امتلاك السلاح النووي تحت غطاء مشروع بحري مشروع ظاهريًّا.
ومع أن كوريا الجنوبية قد تكتفي بأن تكون "دولة عند العتبة" دون تصنيع قنبلة، فإن التحوّل بحد ذاته يضع النظام الدولي أمام اختبار سياسي وقانوني غير مسبوق، ويثير سؤالًا محوريًا؛ هل استطاعت واشنطن احتواء الخطر، أم أنها أطلقت ديناميكية يصعب إيقافها في السنوات المقبلة؟