ترامب يعلن أنه سيوجّه "خطابا إلى الأمة" الأربعاء
في كل مرة تشتد فيها التوترات بين موسكو وواشنطن، يظهر اسم مواطن أمريكي في الكواليس قبل غيره؛ اسم لا يظهر في المؤتمرات الرسمية، ولا يجلس إلى طاولة التفاوض، لكنه يقف غالبًا عند الحدّ الفاصل بين الصدام والانفراج.
كيريل دميترييف، الرئيس التنفيذي لصندوق الاستثمار السيادي الروسي - الرجل الذي لم يعلن يومًا أنه دبلوماسي - بات اليوم أحد أهم المفاتيح السرية في هندسة التواصل بين موسكو وواشنطن، العاملين في "المنطقة الرمادية" للدبلوماسية الحديثة.
وبرغم أنه مدير RDIF، إلا أن سجله يرتبط بملفات لا علاقة مباشرة لها بالاقتصاد، بدءًا من ظهوره في تقرير مولر 2019 كقناة تواصل خلفية مع فريق انتقال ترامب، وصولًا إلى لقائه الشهير مع إريك برينس في سيشل، وهي اللقاءات التي قدمت دميترييف للعالم بصفته "الرجل الذي يُجري المفاوضات التي لا تستطيع الحكومات الاعتراف بها".
وفي خضم الحرب الأوكرانية، ازدادت أهميته بعدما أصبح يُنظر إليه باعتباره المسؤول الروسي الوحيد القادر على المرور عبر البوابات السياسية في واشنطن دون ضجيج، إذ حصل في أبريل 2025 على إذن استثنائي من إدارة ترامب للقيام بزيارة نادرة إلى العاصمة الأمريكية من أجل بحث وقف إطلاق النار وخطط السلام.
ويرجع اعتماد الكرملين عليه، وفق مراقبين، إلى تركيبة فريدة يصعب تكرارها: تعليم أمريكي في ستانفورد وهارفارد، خبرة مالية عالمية في غولدمان ساكس، شبكة علاقات غربية واسعة، إضافة إلى ولاء شخصي ودائرة ثقة ضيقة تربطه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
هذه الميزات جعلته "الرسول الاقتصادي" لموسكو، والقادر على تمرير الرسائل خارج الإطار الرسمي، سواء عبر التفاهمات مع جاريد كوشنر قبل سنوات، أو من خلال محادثاته الحالية مع مبعوث ترامب، ستيف ويتكوف، بشأن إعادة بناء العلاقات بعد سنوات من القطيعة.
ولم يتوقف حضوره عند حدود ملفات السلام أو تبادل السجناء، بل توسع ليشمل الجانب الأكثر حساسية في أدوات النفوذ الروسية داخل الغرب؛ إذ يُتَّهم دميترييف بأنه جزء من شبكة تأثير استراتيجية تعمل على دمج رأس المال بالسياسة لتليين مواقف بعض الدوائر الأمريكية والأوروبية.
ورغم فشل زيارته إلى واشنطن في أكتوبر 2025 في إلغاء العقوبات النفطية، فإن ظهوره الإعلامي الواسع هناك، ولقاءاته مع شخصيات اقتصادية وثقافية بارزة مثل إيلون ماسك، عكسا حجم المساحة التي بات يشغلها في الدبلوماسية الموازية التي تديرها موسكو.
يشير مراقبون إلى أن دميترييف لا يعمل بمعزل عن أجهزة الدولة الروسية، بل يمثل أحد خطوطها الأكثر حساسية في الغرب، سواء في إعادة تدوير الرواية الروسية داخل الإعلام الأمريكي، أو في تسهيل صفقات مالية عابرة للحدود تُستخدم كأدوات ضغط أو جذب في اللحظات الحرجة.
وبين ما هو ظاهر وما يجري خلف الستار، يبدو أن الدور الحقيقي لكيريل دميترييف أكبر بكثير مما تكشفه التحركات الرسمية، ويبقى التساؤل: ما الذي يجعل دميترييف نقطة ارتكاز في الاتصالات السرّية بين موسكو وواشنطن؟.
ويرى الخبراء أن كيريل دميترييف بات يشكّل "الأداة الخفية" في الدبلوماسية الروسية ودورًا محوريًا في إدارة القنوات الخلفية بين موسكو وواشنطن، باعتباره يجمع بين خبرة اقتصادية واسعة وشبكة نفوذ ممتدة داخل دوائر المال والسياسة في الغرب.
وأضاف الخبراء أن موسكو تعتمد عليه لتمرير رسائلها السياسية بعيدًا عن الأضواء، مستفيدةً من قدرته على التواصل المباشر مع شخصيات أمريكية وأوروبية رفيعة، وترتيب ملفات حساسة مثل تبادل السجناء والتحضير للقاءات غير معلنة بين بوتين وترامب.
وأكدوا أن دميترييف، بصفته واجهة غير رسمية للكرملين، يجسّ نبض العواصم الغربية بشأن مستقبل العلاقات، ويستخدم التعاون الاقتصادي أداة لجذب الغرب نحو تفاهمات أوسع في وقت تعزز فيه روسيا موقعها الميداني والسياسي، ما يجعل دوره أحد أهم مفاتيح النفوذ الروسي في الغرب خلال المرحلة الحالية.
وأكد سمير أيوب، المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، أن شخصية كيريل دميترييف أصبحت اليوم إحدى أهم القنوات غير العلنية لإعادة وصل ما انقطع بين موسكو والغرب.
وقال في تصريحات لـ"إرم نيوز" إن دميترييف، باعتباره مستثمرًا ورجل أعمال بارزًا ورئيسًا تنفيذيًا لصندوق الاستثمار المباشر الروسي، يمتلك شبكة واسعة من العلاقات مع كبار رجال الأعمال في أوروبا والولايات المتحدة، وهو ما منحه قدرة استثنائية على لعب أدوار مؤثرة في الملفات السياسية والاقتصادية.
وأشار أيوب إلى أن هذا الدور "لم يأتِ صدفة"، بل استند إلى ثقة الرئيس فلاديمير بوتين بقدرة دميترييف على التحرك بعيدًا عن الأضواء ونقل رسائل موسكو الاقتصادية والسياسية إلى العواصم الغربية.
وأوضح المحلل السياسي أن بوتين اختاره مبعوثًا خاصًا ليكون جسرًا للتواصل خلال مرحلة الانقطاع التي فرضها الصراع الروسي الأطلسي في المشهد الأوكراني.
وأضاف أن دميترييف يحمل مبادرات تعبر عن "انفتاح روسي ملحوظ" على الولايات المتحدة، خصوصًا مع إدارة الرئيس ترامب ذات الطابع البراغماتي.
وأكد الخبير في الشؤون الروسية أن المبعوث الروسي يعمل على صياغة نقاط مشتركة تقوم على التعاون في الاقتصاد والاستثمار والطاقة، في محاولة لتمهيد الطريق أمام تخفيف التوتر السياسي بين موسكو وواشنطن.
وبيّن أيوب أن دميترييف يقف غالبًا خلف التحضيرات الأولية لأي لقاء محتمل بين القادة الروس والأمريكيين، بما في ذلك لقاءات بوتين وترامب، واصفًا إياه بأنه العقل المدبر لقنوات الاتصال غير المعلنة، والمسؤول عن قراءة مواقف العواصم الغربية بشأن فرص استعادة العلاقات مع موسكو عبر المدخل الاقتصادي.
وأشار إلى أن دميترييف تحول فعليًا إلى "رسول بوتين" في الغرب، نظرًا لقدرته على إقناع العواصم الأوروبية وواشنطن بأن وقف إطلاق النار وإنهاء الصراع يفتح الباب أمام عودة الاستثمارات الغربية إلى السوق الروسية، وهو طرح تعتبره موسكو أداة جذب رئيسة في إدارة الأزمة.
ولفت إلى أن الحديث المتزايد عن إمكانية عقد قمة جديدة بين الرئيسين ترامب وبوتين، سواء في بلغاريا أو أي دولة ثالثة، يأتي ضمن مساعي إيجاد حلول للصراع الروسي الأطلسي، في ظل التطورات الميدانية التي عززت الموقف الروسي، خصوصًا مع توسيع نطاق السيطرة في شرق أوكرانيا.
وأكد سمير أيوب أن المبادرات الأمريكية الأخيرة التي تسربت عبر كييف أو عبر المبعوث الأمريكي "ويتكوف" تعكس إدراك الغرب بأن استمرار الخسائر الأوكرانية لا يخدم أوروبا ولا كييف، بينما تستفيد منه الولايات المتحدة سياسيًا واقتصاديًا.
من جانبه، أكد رامي القليوبي، الأستاذ بكلية الاستشراق في المدرسة العليا للاقتصاد بموسكو، أن شخصية كيريل دميترييف باتت تمثل نموذجًا جديدًا في الدبلوماسية الروسية الحديثة، موضحًا أنه يجمع في سلوكه المهني وطريقة حضوره العام بين ملامح النظامين "الرأسمالي والسوفيتي" في آن واحد.
ولفت القليوبي، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، إلى أن إتقان دميترييف التام للغة الإنجليزية يمنحه ميزة إضافية في التواصل مع نظرائه الغربيين، وهو ما يجعله مختلفًا بصورة لافتة عن الدبلوماسي الروسي التقليدي المتخرج من مدارس الحقبة السوفيتية.
وقال إن دميترييف يؤدي دورًا فعّالًا في العديد من الملفات الحساسة، مشيرًا إلى مشاركته المباشرة في مفاوضات معقدة، من بينها قضايا تبادل السجناء بين موسكو وواشنطن.
وأضاف الأستاذ بكلية الاستشراق في المدرسة العليا للاقتصاد بموسكو أن دميترييف يمتلك شخصية ديناميكية و"كاريزما" واضحة تمكنه من ترتيب مثل هذه الملفات خلف الكواليس، إلى جانب تمتّعه بشبكة علاقات واسعة وثقة كبيرة داخل دوائر صناعة القرار.
وأوضح القليوبي أن دميترييف يشكّل بالنسبة لدوائر الحكم "واجهة غير رسمية" للدبلوماسية الروسية، لافتًا إلى أنه يستقبل باستمرار شخصيات أجنبية رفيعة المستوى، وعلى رأسهم ويتكوف، مبعوث الرئيس ترامب، فور وصولهم إلى موسكو.
وتابع: "إن دميترييف يرافق ضيوفه عادةً في جولات خاصة، من بينها زيارة حديقة زاراجة القريبة من الكرملين برفقة الحرس الشخصي، قبل أن يدعوهم إلى إفطار فاخر في أحد المطاعم الراقية، في مشهد يجسد طبيعة الدور غير التقليدي الذي يقوم به".
وأكد القليوبي أن هذا النمط من التحركات يمنح كيريل دميترييف تأثيرًا حقيقيًا داخل الدبلوماسية الروسية المعاصرة، ويجعله عنصرًا محوريًا في إدارة الملفات الحساسة بين روسيا والغرب.