في وقت تتزايد فيه المخاوف الغربية من نشاط الغواصات الروسية في شمال الأطلسي، كشفت المملكة المتحدة عن برنامج دفاعي ثوري يحمل اسم "حصن الأطلسي"، يهدف إلى إعادة بناء قدرات البلاد تحت سطح البحر وتحويل البحرية الملكية إلى قوة هجينة تعتمد على الذكاء الاصطناعي والمنصات الذاتية.
يعكس الإعلان، الذي جاء خلال زيارة وزير الدفاع جون هيلي لقاعدة بورتسموث، إدراك لندن بأن التهديدات البحرية دخلت مرحلة أكثر تعقيدًا، تتطلب حلولًا تكنولوجية غير تقليدية، بحسب "Daily Naval News".
تهديدات روسية متصاعدة
يأتي إطلاق البرنامج في ظل رصد أجهزة الاستخبارات البريطانية تصاعدًا في الأنشطة الروسية تحت الماء، بما في ذلك تحركات سفينة التجسس "يانتار" قرب المياه البريطانية، وسط تقارير عن تحديث موسكو لأسطولها لاستهداف البنى التحتية الحيوية، من كابلات الإنترنت إلى خطوط الطاقة البحرية.
دفعت هذه التطورات لندن إلى التحرك وفق رؤية دفاعية جديدة تعتبر المجال البحري "الأكثر عرضة للخطر"، وتضع الأمن تحت الماء في صلب استراتيجيتها.
يُعرض البرنامج بوصفه نقلة نوعية في الحرب البحرية، إذ يقوم على دمج سفن وغواصات مأهولة، ومنصات ذاتية القيادة كبيرة الحجم، وطائرات دورية متطورة، وشبكة واسعة من أجهزة الاستشعار، ومنظومة رقمية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لاتخاذ القرار وتحديد الأهداف.
وبحسب وزارة الدفاع، سيتيح هذا الدمج إنشاء شبكة تحت مائية تمتد من سلسلة جبال وسط الأطلسي إلى بحر النرويج، قادرة على رصد الخصوم وتتبعهم على نطاق واسع وبسرعة تفوق القدرة التقليدية.
ويتجاوز البرنامج البعد العسكري إلى بعد صناعي واقتصادي؛ فقد ضخت الحكومة وقطاع الصناعة استثمارات أولية بـ14 مليون جنيه إسترليني، وسط مشاركة 26 شركة من المملكة المتحدة وأوروبا في تطوير أجهزة استشعار جديدة، يعرض 20 منها حاليًا نماذج تجريبية.
تسريع وتيرة الابتكار
الرسالة الرئيسة التي تروج لها لندن واضحة؛ "التهديدات الجديدة تتطلب دفاعًا جديدًا".
فبموجب مراجعة الدفاع الاستراتيجية، تتحرك الحكومة بسرعة نحو بناء قوة بحرية قادرة على العمل بوتيرة عالية وبمرونة، مستفيدة من استقلالية المنصات ومن دمج الذكاء الاصطناعي في عمليات الرصد والاستهداف.
ويؤكد الجنرال السير جوين جينكينز، قائد البحرية الملكية، أن البرنامج يمثل "حقبة جديدة" تستعيد إرث الابتكار البريطاني، وتضع البلاد في طليعة الدول التي تنتقل إلى نموذج "القوات البحرية الهجينة"، وهو قطاع يُتوقع أن تبلغ قيمته 350 مليار جنيه عالميًا في السنوات المقبلة.
من جانبها، ترى الشركات العاملة في المشروع فرصة لإعادة تعريف الحرب تحت الماء؛ بي إيه إي سيستمز تعرض غواصة "هيرن" المستقلة ونظام التحكم "ناوتوميت"، ما يتيح تنفيذ مهام معقّدة دون تدخل بشري مباشر.
وتشدد هيلسينغ على دور الذكاء الاصطناعي في عمليات السونار والتتبع تحت الماء، مشيرة إلى تجارب ناجحة لمنصتي "SG-1 Fathom" و"Lura".
كما تطوّر أندوريل "حارس قاع البحر"، وهو نظام يُتوقع أن يعزز قدرة بريطانيا على مراقبة مناطق شاسعة من المحيط.
هذه الشراكة بين القطاعين العسكري والمدني تُظهر التوجه البريطاني نحو نموذج مزدوج، حيث يتحول الاستثمار الدفاعي إلى محرّك للنمو الاقتصادي وتطوير التكنولوجيا.
ماذا يعني البرنامج لأمن الأطلسي؟
مع تنامي نشاط روسيا في أعماق البحار، يُعيد "حصن الأطلسي" رسم توازن القوة تحت الماء بين الناتو وموسكو.
فالبرنامج لا يهدف فقط إلى حماية البنية التحتية البريطانية، بل يسعى كذلك إلى تعزيز قدرة الحلف على الردع عبر تحسين قدرة الدول على اكتشاف الغواصات الروسية مبكرًا، وتأمين شبكات الطاقة والاتصالات البحرية، ونشر قدرات هجينة يصعب تعطيلها أو استهدافها.
إضافة إلى ذلك، يحمل البرنامج بعدًا سياسيًا، إذ يعكس رغبة بريطانيا في الحفاظ على دور قيادي داخل الناتو، خاصة في ظل تراجع قدرات بعض الدول الأوروبية والنقاش الدائر حول مستقبل الأمن الأوروبي بعد حرب أوكرانيا.
يقدم "حصن الأطلسي" رؤية بريطانية لحرب بحرية تعتمد على الذكاء الاصطناعي والاستقلالية، في مواجهة تهديدات روسية تتحرك نحو "عسكرة القاع البحري".
وبقدر ما يسعى البرنامج إلى تعزيز الردع، فإنه يفتح الباب أمام سباق تكنولوجي جديد في عمق المحيط، سباق ستكون تداعياته مؤثرة على الأمن الأوروبي وشبكات الطاقة العالمية والمعايير الدولية للحرب البحرية.