دخلت اليابان، الدولة التي طالما اعتُبرت نموذجًا للاستقرار السياسي، مرحلة جديدة من الارتباك بعد إعلان رئيس الوزراء شيغيرو إيشيبا استقالته المفاجئة، بعد أقل من عام على توليه السلطة.
لم يأتِ قرار التنحي، الذي وصفه إيشيبا بأنه "مؤلم"، في فراغ، بل يعكس تراكمات سياسية واقتصادية واجتماعية جعلت حكومته عاجزة عن مواجهة عواصف الداخل والخارج، وفق صحيفة "نيويورك تايمز".
وتقول ميريا سوليس، مديرة مركز دراسات السياسة الآسيوية في بروكينغز، إن ما يحدث هو "أزمة قيادة عميقة"، محذّرة من احتمالين: عودة اليابان إلى سياسة التردد وتناوب رؤساء الوزراء، أو انجرافها نحو الشعبوية اليمينية المتطرفة التي تحقق مكاسب متسارعة في الشارع.
يتغير المشهد الياباني بسرعة غير مألوفة؛ التضخم الغائب لعقود، ارتفع إلى نحو 3%؛ كما أن أصوات معادية للأجانب تتصاعد مع تدفق العمال والسياح. أما على الصعيد الدولي، فقد تعثرت المحادثات التجارية مع إدارة ترامب، التي لم تتردد في التلويح بفرض رسوم جمركية على الصادرات اليابانية، ما اعتبره اليابانيون طعنة في ظهر تحالفهم التاريخي مع واشنطن.
وجاءت الضربة القاضية في انتخابات يوليو البرلمانية، عندما مُني الحزب الليبرالي الديمقراطي بقيادة إيشيبا، الذي حكم اليابان طوال سبعين عامًا تقريبًا، بخسارة مدوية.
وعاقب الناخبون الحزب على تعامله مع ملفات الاقتصاد والهجرة والتجارة، إضافة إلى فضيحة مالية ونقص في الأرز؛ والنتيجة: خسارة 19 مقعدًا من أصل 66؛ ما جعل الحزب أقلية في البرلمان للمرة الأولى منذ عقود.
أنهكت هذه الهزائم، إلى جانب ضربة انتخابية سابقة في أكتوبر، إيشيبا؛ ومع صعود أحزاب يمينية متطرفة حديثة التأسيس، خصوصًا بين الشباب، بدا أن بقاءه في السلطة مستحيل، وهكذا أعلن استقالته وهو في الـ68 من عمره قائلاً: "أشعر بندم شديد".
تتجه الأنظار إلى السباق الساخن داخل الحزب الليبرالي الديمقراطي لاختيار خليفة إيشيبا، حيث تبرز أسماء عدة من بينها شينجيرو كويزومي الكاريزمي، ساناي تاكايتشي المدعومة من آبي، يوشيماسا هاياشي المقرب من إيشيبا، توشيميتسو موتيجي الوزير السابق، وتاكايوكي كوباياشي النائب الصاعد.
لكن الحزب يواجه أزمة هوية عميقة؛ فهل سيظل "حزبًا محافظًا موحد الأيديولوجية" على خطى آبي، أو سيتحوّل إلى "خيمة كبيرة تمثل المجتمع الياباني بأسره"، كما يتساءل المحلل السياسي توبياس هاريس؟
أيًّا كان الزعيم المقبل، فسيرث ملفًا بالغ التعقيد يتمثل في التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة التي تثقل كاهل العائلات اليابانية، إضافةً إلى قضية الهجرة التي تُشعل جدلًا محتدمًا بين اعتبارها ضرورة اقتصادية ورؤيتها تهديدًا للهوية الوطنية.
كما يواجه تحديات خارجية أبرزها التوترات مع الصين في بحر الصين الجنوبي المتخم بالحشود العسكرية، والعلاقات الشائكة مع الولايات المتحدة في عهد ترامب بعد فرض رسوم جمركية شاملة بنسبة 15% على الصادرات اليابانية.
وفوق ذلك، تزداد ضغوط الشيخوخة السكانية التي تهدد سوق العمل وتنهك نظام الرعاية الاجتماعية.
تقول سوليس إن التحدي الأساسي سيكون "إعادة اختراع العلامة التجارية للحزب الليبرالي الديمقراطي" وإيجاد خطاب يتجاوب مع الجيل الشاب وسكان المدن الكبرى.
لكن هاريس يشكك في قدرة أي رئيس وزراء على إدارة كل هذه الملفات في وقت واحد: "إنها مجموعة من المهام الشاقة للغاية، وربما تتجاوز قدرة أي فرد".