مسيّرة تستهدف سيارة على طريق بلدة مركبا جنوبي لبنان
باتت مدينة بوكروفسك الأوكرانية الشرقية، عنوانا لصراع مستميت بين كييف وموسكو، فلئن اعتبرتها الأخيرة بوابةَ السيطرة على كامل إقليم دونباس، فإن كييف تنظر إليها بوصفها شريانا اقتصاديا وصناعيا حيويا واستراتيجيا لا غنى عنه.
وتعيش المدينة منذ أسابيع على وقع عملياتٍ عسكريةٍ كبيرة متبادلة بين الطرفين، استُخدمت خلالها المسيّرات الانقضاضية والدبابات والصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى.
واعترف الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بأن محور بوكروفسك يعيش وضعا عسكريا هو "الأصعب" مقارنةً بسائر الجبهات المشتعلة في الشرق الأوكراني.
وتتباين الروايات الروسية والأوكرانية حول تفاصيل ومجريات المعركة في المدينة؛ فبينما تؤكد كييف إحكام سيطرتها عليها وتطهيرها من الجنود الروس المتسللين إليها، تشدد موسكو في المقابل على تثبيت وجودها داخلها، وتمكنها من قطع خطوط الإمداد عنها، وإفشال كل محاولات فك الحصار عن الحامية المحاصَرة التي يبلغ عددها نحو 5 آلاف عنصر.
وتشير مصادر إعلامية قريبة من موسكو، إلى أن القوات الروسية تمكنت من تأمين مواقعها العسكرية في الجزء الجنوبي من المدينة، وأن معارك طاحنة لا تزال مشتعلة في وسطها وفي القرى والبلدات المتاخمة لها.
وتؤكد هذه المصادر أن عدد القوات الروسية يفوق كثيرا نظيره الأوكراني؛ إذ تشير التقديرات إلى أنه مقابل 1500 جندي أوكراني، هناك نحو 12 ألف جندي روسي.
كما تضيف أن القوات الروسية سيطرت بشكل كامل على المجال الجوي للمدينة؛ ما يؤشر إلى احتمال سقوطها خلال الأسابيع القليلة المقبلة.
ويرى الخبراء العسكريون أن التقدم الروسي في مدينة بوكروفسك ناتج عن نجاح موسكو في تحييد قدرات الطائرات الأوكرانية من دون طيار؛ إذ بنت روسيا استراتيجيتها على إرسال مئة مجموعة صغيرة من المقاتلين يوميا إلى المدينة، تتكوّن كلٌّ منها من 3 جنود فقط، لإشغال المسيّرات عن الملاحقة، وهو ما تحقق بالفعل.
يُذكر أن المقاتلين الروس يتعمدون خوض قتال قريب مع مشغّلي المسيّرات الأوكرانية، ما يعوق عمليات الإطلاق واستهداف القوات الروسية في الخطوط الخلفية القريبة من جبهات المواجهة.
ويُبسّط الخبراء محددات الاستراتيجية العسكرية الروسية للانقضاض على المدينة، التي رغم طول المدة الزمنية التي استغرقها تنفيذها، فقد ساعدت في تأمين التطويق الروسي شبه الكامل للمدينة.
ووفقًا للمراقبين العسكريين، تمثلت الخطة الروسية في ثلاث نقاط رئيسة:
الأولى تأمين المناطق المسيطر عليها قبل التوغّل في مناطق جديدة؛ وهو ما يفسر أن تطويق بوكروفسك استغرق 21 شهرا للتقدم 40 كيلومترا فقط من مدينة أفدييفكا.
والثانية التطويق الكامل قبل الاقتحام، بحيث يتم الهجوم من عدّة محاور لضمان السيطرة ومنع القوات الأوكرانية من الالتفاف على الروس.
والثالثة، السيطرة الجوية قبل البرية؛ إذ لا جدوى من وجود بريّ دون تحكّم في الأجواء، وهو ما تحقق حاليا في بوكروفسك ومعظم المناطق المجاورة لها.
ويبدو أن روسيا استفادت كثيرا من تجاربها السابقة في أوكرانيا؛ إذ تحوّل دخول بعض المدن سابقا إلى مصائد عسكرية أنهكت قواتها بفعل المسيّرات الأوكرانية.
ويشير الخبراء إلى أن موسكو تسعى إلى تحقيق إنجاز عسكري جديد في بوكروفسك على غرار نموذج أفدييفكا في فبراير/شباط 2024، حيث منحت السيطرة عليها هيمنةً ناريةً بريةً وجويةً واسعة، وانتصارا معنويا كبيرا مكّنها لاحقا من التقدم بثبات نحو باقي مدن الشرق الأوكراني.
وبناءً على هذا المشهد العسكري، يطرح الخبراء سيناريوهات عدة محتملة لمرحلة ما بعد بوكروفسك.
وترى بعض القراءات القريبة من موسكو أن السيناريو الأرجح يتمثل في انسحاب القوات الأوكرانية من المنطقة ومن رأس جسرها على الضفة الشرقية لنهر أوسكيل لتجنب الحصار، مشيرةً إلى أن الانسحاب المبكر يقلل من الخسائر البشرية والمادية.
في المقابل، ترى قراءات أخرى قريبة من كييف أن القوات الأوكرانية لن تغادر المدينة قبل إلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر بالقوات الروسية، وأنها لا تزال تراهن على الإمدادات العسكرية الثقيلة، نظرا للأهمية الاستراتيجية القصوى للمدينة في التصور الأوكراني.
أما السيناريو الثالث فيشير إلى احتمال انسحاب جزئي للقوات الأوكرانية مع إعادة تمركزها ضمن خطوط الدفاع التالية، بما يحول دون سقوط كامل للحزام الدفاعي الذي يشمل كوستيانتينيفكا ودروجكيفكا وكراماتورسك وسلوفيانسك، مستندا إلى كفاءة الدفاع الأوكراني وقلة العدد الروسي المنتشر على جبهات عدّة.
وتوضح الدراسات العسكرية والاستراتيجية الأسباب العميقة لهذا الاقتتال المستميت على المدينة؛ إذ تُعد بوكروفسك عاصمة المناجم وشريان صناعة المعادن في أوكرانيا، وتتمركز فيها العديد من مناجم فحم الكوك النادر المستخدم في صناعة الصلب.
وتشير مصادر أوكرانية إلى أن خسارة هذه المناجم ستؤدي إلى تراجع الإنتاج الصناعي بأكثر من 60%، وأن إنتاج الفحم تدهور في عام 2024 إلى 3.5 مليون طن فقط بدلًا من 10 ملايين كانت متوقعة.
يُذكر أن نحو 27% من الناتج المحلي الأوكراني قبل الحرب، التي اندلعت في فبراير/شباط 2022، كان يعتمد على الصناعات الثقيلة، بما في ذلك التعدين والصناعات العسكرية والمدنية.
ويرى الخبراء أن خسارة بوكروفسك تمثل "كابوسا حقيقيا" لكييف؛ لأنها تهدد آخر خطوط دفاعها الاقتصادي، وتعني فقدانها لسوق التعدين العالمي، وتحولها من دولة مصدّرة إلى دولة مستوردة للمعادن باهظة الثمن، في ظل السيطرة الروسية على الأجواء وخطوط الإمداد.
عسكريًا، ستمكّن السيطرة على بوكروفسك الجيش الروسي من تثبيت وجوده في منطقة دونيتسك، وفتح الطريق أمامه لبسط السيطرة على كامل الإقليم الذي أعلنت موسكو ضمه وتستحوذ حاليًا على 81% منه.
كما سيسمح ذلك بالتقدم غربا نحو مناطق أقل تحصينا، لوقوع بوكروفسك عند تقاطع طرق إقليمية وخطوط سكك حديدية مهمة.
في المقابل، تبقى هناك عوائق أمام الهجوم الروسي على بوكروفسك، أبرزها الدور الأوروبي الذي قد يسرّع من استغلال الأموال الروسية المجمّدة في بنوكه لتمويل تسليح كييف، خصوصا بصواريخ توماهوك التي ما زال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يعارض تسليمها، إضافة إلى القدرات الدفاعية الأوكرانية التي أثبتت قدرتها على نقل الصراع إلى العمق الروسي.
وفي المحصلة، يبدو أن ملامح التطورات العسكرية ترسم بنود اتفاق وقف إطلاق النار كما يريده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولا يعارضه ترامب، بحيث يشمل ضمّ إقليمي دونيتسك والقرم، والسيطرة على لوغانسك وخيرسون وزابوريجيا، وتدمير القدرات الطاقية الأوكرانية، وإضعاف الجيش الأوكراني عددا وعتادا.
وقد يكون ما بعد بوكروفسك مرحلة تفاوض وفق شروط المنتصر، وإن كان ذلك بالنقاط لا بالحسم الكامل.