تشهد العلاقات الأمريكية الفنزويلية أخطر مستوياتها منذ عقود، في ظل حشد عسكري أمريكي ضخم في منطقة البحر الكاريبي وتصعيد خطابي غير مسبوق من الجانبين.
منذ أيلول/ سبتمبر 2025، نفذت الولايات المتحدة 22 ضربة على قوارب مشتبه بها في تهريب المخدرات، أسفرت عن مقتل 87 شخصاً على الأقل، فيما حشدت 15,000 جندي وحاملة الطائرات جيرالد فورد - أكبر حاملة طائرات في العالم - قرب السواحل الفنزويلية.
خطاب التحدي من كاراكاس
رفض الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو التهديدات الأمريكية بقوة، معلناً في تجمع حاشد في العاصمة كاراكاس أول ديسمبر: "نحن لا نريد سلام العبيد، ولا سلام المستعمرات".
هذا الخطاب التحدي جاء بعد ساعات من اجتماع الرئيس دونالد ترامب مع فريقه الأمني لبحث "الخطوات التالية" تجاه فنزويلا، في مشهد وصفته CNN بأنه يشبه "لعبة دجاج عملاقة" بين زعيمين لا يريد أي منهما التراجع.
وصف مادورو الضغوط الأمريكية بأنها "إرهاب نفسي" استمر لـ 22 أسبوعاً، مؤكداً أن بلاده تريد السلام لكن "بسيادة ومساواة وحرية".
في 29 نوفمبر، وصفت وزارة الخارجية الفنزويلية إعلان ترامب إغلاق المجال الجوي الفنزويلي بأنه "تهديد استعماري" يشكل "عدواناً غير قانوني وغير مبرر".
يرى محللون أن هذا التصعيد الخطابي يهدف لتعبئة القاعدة الشعبية داخلياً وإظهار عدم الاستسلام للضغوط الخارجية، رغم أن مادورو أجرى مكالمة هاتفية مع ترامب في 21 نوفمبر وصفها بأنها "ودية".
بين مكافحة المخدرات وتغيير النظام
أعلن ترامب مراراً أن أيام مادورو "معدودة"، رافضاً استبعاد إرسال قوات برية لفنزويلا. في 10 ديسمبر، استولت القوات الأمريكية على ناقلة نفط فنزويلية قبالة الساحل، في تصعيد وصفته كاراكاس بـ "القرصنة الدولية".
وزيرة العدل الأمريكية بام بوندي نشرت فيديو لقوات أمريكية تهبط على متن الناقلة من هليكوبتر، في مشهد استعراضي واضح.
الإدارة الأمريكية تبرر حملتها بمكافحة "الإرهاب المخدراتي"، حيث ضاعفت المكافأة على القبض على مادورو إلى 50 مليون دولار، وصنفت ما تسميه "كارتل الشموس" - شبكة فساد مزعومة داخل الجيش الفنزويلي - كمنظمة إرهابية أجنبية. لكن خبراء يشككون في هذه الرواية.
يقول فرانسيسكو رودريغيز من مركز البحوث الاقتصادية والسياسية إن فنزويلا ليست دولة منتجة للكوكايين وفقاً للأمم المتحدة، وإنما كانت نقطة عبور لـ 10-13% من الإنتاج العالمي العام 2020.
معظم الإنتاج يأتي من كولومبيا وبيرو وبوليفيا. خبراء عسكريون يؤكدون أن الحشد العسكري الأمريكي يفوق بكثير ما هو مطلوب لعمليات مكافحة مخدرات.
سيناريوهات خطيرة
إلى ذلك يحذر خبراء من أن التدخل العسكري قد يفتح "صندوق باندورا".
ويقول إلياس فيرير من معهد أبحاث أورينوكو إن الضربات قد تمكّن جماعات مسلحة أو عصابات إجرامية من السيطرة على أجزاء من البلاد.
كما تتوقع دراسة لمركز " نيسكانين" أن ضربات محدودة قد تؤدي لنزوح 1.7-3 مليون فنزويلي في سنوات قليلة، بينما قد يصل العدد لأكثر من 4 ملايين في حال صراع مسلح طويل.
مارك كانسيان، مستشار بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، يستبعد غزواً أمريكياً كاملاً بسبب دروس العراق وأفغانستان، لكنه يحذر من أن الوضع معقد.
بينما يرى ألكساندر داونز وليندسي أورورك في مجلة "فورين أفيرز" أن "محاولات تغيير النظام تفشل أكثر مما تنجح تاريخياً"، مشيرين إلى أن نتائج مثل هذه العمليات عادة ما تكون فوضوية وعنيفة.
محللون آخرون يشيرون إلى أن ترامب يواجه معضلة استراتيجية: فالحشد العسكري الضخم والتهديدات المتكررة قد تفقد مصداقيتها إذا لم تتبعها أفعال حقيقية، خاصة أن ترامب حساس تجاه اتهامات "التراجع" بعد التهديد.
لكن أي عمل عسكري سيناقض وعوده الانتخابية بتجنب الحروب الخارجية، واستطلاعات "سي بي إس" تظهر أن 76% من الأمريكيين يعارضون ضرب فنزويلا.
ألعاب الضغط والمفاوضات السرية
في المقابل كشفت وكالة أنباء "رويترز" أن ترامب عرض على مادورو في المكالمة الهاتفية مروراً آمناً خارج فنزويلا مع عائلته، لكن مادورو طالب بضمانات شاملة تشمل رفع العقوبات عن أكثر من 100 مسؤول وإسقاط قضيته في المحكمة الجنائية الدولية.
رفض ترامب معظم المطالب وأعطاه مهلة أسبوع انتهت في 29 نوفمبر، مما دفعه لإعلان إغلاق المجال الجوي الفنزويلي.
مسؤولون أمريكيون قالوا إن الإدارة الأمريكية تعمل على خطط "اليوم التالي" لما بعد سقوط مادورو، سواء بالتفاوض أو بالقوة.
وزير الخارجية ماركو روبيو، الكوبي الأصل والمعروف بعداءه للأنظمة اليسارية في أمريكا اللاتينية، يقود جناحاً داخل الإدارة يدعم تغيير النظام بالقوة، مقابل جناح آخر يفضل التسوية التفاوضية.
البعد القانوني والأخلاقي
أثارت العمليات الأمريكية جدلاً قانونياً واسعاً. خبراء قانونيون يصفون الضربات بأنها "غير قانونية" بموجب القانون الأمريكي والدولي. الأمم المتحدة وصفت بعض الهجمات بأنها "إعدامات خارج نطاق القضاء".
الأخطر كان ما كشفته "سي إن إن" و"واشنطن بوست" عن أمر وزير الدفاع بيت هيغسيث الشفوي "بقتل جميع من على متن" القوارب المشتبه بها، متبوعاً بضربة ثانية لقتل الناجين - وهو ما يشكل جريمة حرب محتملة تحت قوانين النزاعات المسلحة.
مجلس الشيوخ الأمريكي رفض مرتين قرارات تحد من صلاحيات ترامب العسكرية تجاه فنزويلا، بينما تصاعدت دعوات في الكونغرس للتحقيق في العمليات.
بدوره وصف السناتور تشاك شومر خطاب ترامب بأنه "غير واضح لدرجة يستحيل معها معرفة نواياه الحقيقية".
تصعيد خطاب التحدي لمادورو يعكس استراتيجية "الصمود" أمام الضغوط، راهناً على أن ترامب قد يفقد صبره أو يواجه معارضة داخلية تجبره على التراجع.
غير أن هذا النهج محفوف بالمخاطر، فترامب حساس لأي تصور بالضعف، والحشد العسكري الضخم يجعل أي تراجع دون سقوط مادورو ضربة لهيبة أمريكا، لكن ما هو مؤكد الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة.