تشهد منطقة أوراسيا في الآونة الأخيرة تحوّلًا متسارعًا في موازين القوى، تقوده شراكة إستراتيجية آخذة في الاتساع بين أذربيجان وكازاخستان.
ففي القمة الثالثة عشرة التي جمعت الرئيسين إلهام علييف وقاسم جومارت توكاييف في العاصمة الكازاخية أستانا (20–21 أكتوبر)، أعلن الجانبان سلسلة من الاتفاقات الاقتصادية والأمنية التي تعكس طموحًا مشتركًا لبناء تكتل إقليمي جديد قادر على تجاوز النفوذ الروسي والإيراني التقليدي.
ورغم أن البلدين لم يعلنا رسميًّا عن إنشاء تحالف أو "كتلة" جديدة، فإن خطواتهما المتلاحقة، من دعم الممر الأوسط الذي يربط الصين بأوروبا عبر بحر قزوين متجاوزًا الأراضي الروسية، إلى الاعتراف المتبادل بموقع كلٍّ منهما داخل فضاءات إقليمية أوسع، تؤشر على أن الخريطة السياسية لأوراسيا تُعاد صياغتها فعليًّا.
فقد بدأت باكو تُقدَّم كجزء من "آسيا الوسطى الكبرى"، في حين تُعامل كازاخستان باعتبارها عنصرًا فاعلًا في "العالم التركي الموسع"؛ ما يعكس تشابكًا جغرافيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا جديدًا يُضعف قدرة موسكو على الاحتفاظ بنفوذها التقليدي في المنطقة، بحسب صحيفة "يوراسيا ريفيو".
موسكو تفقد قبضتها التاريخية
لا يُمكن فصل هذا التقارب الأذربيجاني–الكازاخستاني عن تدهور علاقات البلدين مع روسيا منذ اندلاع الحرب الأوكرانية عام 2022.
فقد أضعفت سياسات الكرملين ثقة حلفائه السابقين في نواياه، ودفعتهما إلى البحث عن شركاء أكثر براغماتية واستقلالًا.
عندما زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أستانا عام 2024 لحضور قمة منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وصف كازاخستان بأنها "أرض ناطقة بالروسية"، ليردّ عليه توكاييف بالكازاخية، في موقفٍ رمزي عكس رغبة بلاده في تأكيد الهوية الوطنية وتحرير القرار السياسي من الإرث السوفيتي.
كما اتسعت الفجوة بين موسكو وباكو عقب حادثة إسقاط الطائرة الأذربيجانية بنيران روسية أواخر 2024، لتتحول العلاقة بين الطرفين من شراكة متوترة إلى خصومة مكتومة.
وفي ظل هذه الظروف، برزت كازاخستان كحليفٍ طبيعي لأذربيجان، إذ يتقاطع موقف البلدين في الرغبة بإنشاء ممرات تجارية ومشاريع طاقة مستقلة عن السيطرة الروسية، وبناء توازن أمني جديد في بحر قزوين عبر تدريبات بحرية مشتركة وتوسيع الأساطيل الوطنية على مقربة من الحدود الروسية.
أما في القوقاز، فقد سحبت أذربيجان ورقة الضغط من يد الكرملين بعد التسوية مع أرمينيا حول نزاع كاراباخ، ما أفقد روسيا قدرتها على استخدام سياسة "فرّق تسد" في المنطقة.
وخلال قمة أستانا الأخيرة، أعلن علييف رفع حظر السفر المفروض على الأرمن، في خطوة رمزية أكدت انتهاء دور موسكو كوسيطٍ إجباري في صراعات جنوب القوقاز.
وهكذا وجدت روسيا نفسها أمام محور متماسك من دولتين كانتا يومًا ما ضمن فضائها الحيوي، والآن تتحركان لتقويض مركزية دورها في آسيا الوسطى.
خريطة أوراسية جديدة
تجاوز التعاون بين باكو وأستانا الطابع الثنائي ليصبح عاملًا مؤثرًا في التوازن الدولي بأكمله؛ فإدماج أذربيجان في منظومة آسيا الوسطى يمنح المنطقة عمقًا جغرافيًّا واقتصاديًّا متصلًا بالبحر الأسود والبحر المتوسط، ويزيد قدرتها على التواصل مع الأسواق الأوروبية دون المرور بروسيا.
في المقابل، فإن انخراط كازاخستان المتزايد في المشاريع التركية العابرة للحدود، من منظمة الدول التركية إلى مبادرات الأمن الطاقوي، يُعيد الاعتبار للدور التركي في أوراسيا كقوة ثقافية واقتصادية صاعدة، ويزيد الضغط على موسكو التي لطالما نظرت بريبة إلى تمدد "العالم التركي".
وبالنسبة إلى الصين والغرب، فإن هذا التحول يفرض معادلات جديدة؛ فبكين التي تراهن على "الحزام والطريق" تواجه الآن مسارًا بديلاً لا تهيمن عليه موسكو، بينما تجد العواصم الغربية في الممر الأوسط فرصة إستراتيجية لتقليل الاعتماد على الطرق الروسية والإيرانية.
غير أن هذا التوازن الجديد لا يخلو من التحديات، إذ يتطلب من القوى الدولية الاعتراف بأن التحالفات المرنة، مثل: تعاون أذربيجان وكازاخستان، باتت السمة المميزة للجيل الجديد من العلاقات الأوراسية.
لقد أشار محللون روس مؤخرًا إلى أن غزو أوكرانيا "دمّر ما تبقى من نفوذ موسكو في الخارج القريب"، وهو توصيف يعبّر بدقة عن واقع الحال اليوم.
فما بدأ كمبادرة اقتصادية بين دولتين متقاربتين تحول إلى تحدٍ إستراتيجي واسع يُعيد رسم الخريطة السياسية والاقتصادية من بحر قزوين إلى البحر الأسود.
ومع تسارع هذا المسار، يبدو أن أوراسيا تدخل مرحلة ما بعد النفوذ الروسي، حيث تحل الشراكات المتعددة الاتجاهات محل التحالفات الصلبة، ويُعاد تعريف موازين القوى في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية وإستراتيجية.