من بين خطوط العرض المتجمدة في كندا، خرج وزراء خارجية مجموعة السبع هذا الأسبوع بتصريحاتٍ توحي بأن العالم الغربي يحاول إعادة ترتيب بوصلته السياسية وسط مشهد دولي يزداد تعقيدًا.
الحديث عن "سلام طويل الأمد" بدا أشبه بإعلان نوايا أكثر منه التزامًا بخطة واقعية، لكنه في الوقت ذاته كشف عن تحوّلٍ واضح في المزاج الدبلوماسي الغربي الذي بات يدرك أن الحروب الممتدة، من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، لم تعد تحتمل مقارباتٍ قصيرة النفس أو حساباتٍ آنية.
كندا، التي استضافت الاجتماع الوزاري، سعت في خطاباتها إلى تثبيت موقعها كلاعبٍ دبلوماسي فاعل ضمن معادلة القوى الغربية.
تصريحات وزيرة خارجيتها أنيتا أناند، أظهرت محاولة حقيقية لربط الملفات الأمنية بالبعد الإنساني، إذ تحدثت عن ضرورة "التحلي بالطموح لتحقيق سلامٍ طويل الأمد"، وهي عبارة تحمل بين سطورها اعترافًا بأن الغرب لم يعد قادرًا على فرض الإيقاع العسكري وحده، وأن الوقت قد حان لاستعادة نفوذٍ قائم على إدارة التوازنات.
قمة كندا تعيد صياغة الدور الغربي
بحسب مصدر دبلوماسي كندي رفيع المستوى، فإنّ النقاشات التي جرت في كندا هذا الأسبوع مثّلت "واحدة من أكثر الجلسات صدقًا وواقعية منذ بداية الحرب في أوكرانيا". وأوضح المصدر أنّ المزاج العام اتجه نحو الاعتراف بأن مرحلة الاندفاع العسكري قد انتهت، وأنّ العالم الغربي مطالب اليوم بإعادة بناء أدواته السياسية والدبلوماسية على أسس أكثر براغماتية.
وأضاف المصدر خلال تصريحات لـ"إرم نيوز" أنّ الهدف الكندي لم يكن فقط تنسيق المواقف تجاه أوكرانيا، بل إعادة تعريف مفهوم الأمن الجماعي ليشمل أقاليم مثل القطب الشمالي والشرق الأوسط. وأشار إلى أنّ كندا ترى في ذلك "تحولًا ضروريًا" لأنّ الخطوط الفاصلة بين الأمن المناخي والأمن العسكري بدأت تتلاشى.
وأوضح أنَّ الملف القطبي لم يُطرح كقضية بيئية فحسب، وإنما كـ"حزام استراتيجي جديد" يحتاج إلى تعاون دفاعي واستثماري متكامل بين دول المجموعة.
وحول الحرب في أوكرانيا، أكّد المصدر أنّ الوزراء ناقشوا بشكل صريح حدود القدرة الغربية على الاستمرار بالوتيرة نفسها من الدعم المالي والعسكري، خصوصًا في ظل ضغوط اقتصادية داخلية متزايدة في أوروبا وأمريكا الشمالية.
وأضاف أنَّ الاتجاه السائد كان نحو "إدارة الحرب وليس حسمها"، أي تثبيت أوكرانيا على قيد الصمود من دون تصعيدٍ جديدٍ يهدد وحدة الموقف الغربي أو يدفع موسكو نحو خطوات غير محسوبة.
وبيّن أنَّ كندا كانت من أبرز الداعمين لتوسيع مفهوم الدعم ليشمل مشاريع الطاقة والإعمار والغذاء والبنى التحتية، معتبرة أنَّ "مرحلة ما بعد الحرب يجب أن تُبنى منذ الآن وليس بعد انتهاء القتال".
أما في ما يتعلّق بـ الشرق الأوسط، فقد كشف المصدر أنَّ الجهود تضافرت تجاه تبني خطاب "السلام الطويل الأمد"، رغبةً في أن يُعاد صياغة الدور الغربي في المنطقة على نحوٍ أكثر توازنًا.
وأضاف أنّ أوتاوا ترى أنّ "الانشغال المفرط بالحرب في أوكرانيا جعل الغرب يخسر كثيرًا من النفوذ الدبلوماسي في الشرق الأوسط لصالح قوى أخرى مثل روسيا والصين وتركيا"، مشيرًا إلى أنَّ العودة إلى المنطقة "تحتاج خطابًا أخلاقيًا جديدًا يُبنى على مقاربة تنموية ودبلوماسية واقعية".
وأوضح الدبلوماسي أنَّ المناقشات بين الوزراء الأمريكي والكندي والأوروبيين شهدت لحظات توافق نادرة، خصوصًا حول فكرة أن "السلام الدائم" لم يعد يعني فرض تسويات على الأطراف، بقدر ما بات يعني خلق بيئة اقتصادية وسياسية تمنع تفجّر النزاعات مجددًا.
وحول الموقف الكندي الداخلي، أشار المصدر إلى أن الحكومة تعتبر نجاح هذا الاجتماع بمثابة "عودة كندا إلى قلب الدبلوماسية متعددة الأطراف"، بعد سنواتٍ من تراجع تأثيرها الخارجي. فبحسب قوله، "ما نسعى إليه ليس هو دور الشراكة الحقيقية في صياغة رؤية الأمن الدولي لعقدٍ قادم".
واقعية جديدة لأوروبا
في حين قال مصدر دبلوماسي أوروبي لـ"إرم نيوز" إنّ اجتماعات وزراء خارجية مجموعة السبع في كندا شكّلت محطة ضرورية لتقييم موقع الغرب ولإعادة تعريف مفهوم القيادة الجماعية بعد سنوات من التركيز على الاستجابة للأزمات أكثر من بناء حلولٍ مستدامة لها.
وأضاف المصدر أنّ النقاشات أظهرت توجهًا أوروبيًا أكثر واقعية، إذ لم تعد الطروحات تقوم على منطق الحسم العسكري أو العقوبات المفتوحة، وإنما على "الموازنة بين الصمود والدبلوماسية". وأوضح أنّ أوروبا بدأت تدرك أن استمرار النزاع في أوكرانيا من دون أفق سياسي يهدد تماسكها الداخلي قبل أي شيء آخر، ولذلك برز اتفاق غير معلن على ضرورة فتح مسارات جديدة للحوار توازي الدعم الميداني.
ونوّه إلى أنّ الملف الشرق أوسطي حضر بقوة في نقاشات القمة، خصوصًا في ظل القلق الأوروبي من تراجع الدور الغربي في المنطقة لصالح قوى أخرى.
وقال إنّ "الرسالة الأوروبية كانت واضحة، حيث لا يمكن ترك الشرق الأوسط في دائرة الفوضى الدائمة، ولا بد من مبادرات سياسية واقتصادية متكاملة تضمن استقرارًا طويل الأمد".
وأشار إلى أنّ بعض الدول الأوروبية ترى في إعادة تنشيط مسار السلام وتكثيف الحضور الدبلوماسي جزءًا من حماية أمنها الداخلي، باعتبار أن أي انفجار جديد في الإقليم سينعكس مباشرة على القارة.
كما شدد المصدر على أنّ الحديث عن القطب الشمالي تحوّل إلى نقطة مركزية في الرؤية الأوروبية للأمن. وأوضح أنّ "أوروبا تنظر إلى القطب بوصفه الامتداد الطبيعي لأمنها المناخي والاقتصادي، فذوبان الجليد وفتح الممرات البحرية الجديدة سيغيّران ميزان القوى في الموارد والتجارة".
وبيّن أن النقاش الأوروبي يسير نحو تعزيز التعاون مع كندا والدول الإسكندنافية لتأمين هذا الفضاء الاستراتيجي دون عسكرةٍ مفرطة قد تفتح باب سباق نفوذ جديد.
وختم المصدر بالقول إنّ أوروبا لن تراهن بعد اليوم على الشعارات الكبرى، وإنما على نتائج قابلة للقياس. موضحًا أنّ المرحلة المقبلة ستتطلّب، برأيه، "استعادة الثقة في القيم الغربية عبر الفعل، وإثبات أن مفهوم السلام الطويل الأمد ليس وعدًا سياسيًا، وإنما مشروع يمكن بناؤه خطوة بخطوة".
السلام التدريجي وتوسيع أجندة الأمن الدولي
الاجتماع الوزاري لقمة الدول السبع أظهر بوضوح أن الحرب في أوكرانيا باتت تمرّ بمرحلة "الإرهاق الاستراتيجي". الوزراء تحدثوا عن مواصلة الدعم، لكن النبرة لم تعد تلك التي سادت في العامين الماضيين، فالخطاب تغيّر من "الردع الكامل" إلى "الدعم المستدام"، ومن "الهزيمة الروسية" إلى "ضمان صمود الشعب الأوكراني".
ومع حلول فصل الشتاء، يتوقع أن تتركّز الجهود على مشاريع الطاقة والمساعدات الإنسانية أكثر من الدعم العسكري المباشر.
في المقابل، تحاول كندا والولايات المتحدة معًا تسويق نموذج "السلام التدريجي" الذي يمنح كييف قدرةً على البقاء دون التورط في تصعيدٍ جديدٍ غير مضمون النتائج.
إدراج الشرق الأوسط ضمن محاور النقاش يعكس قناعة متنامية لدى الغرب بأن استقرار هذه المنطقة بات شرطًا ضروريًا لضبط التوازن الدولي.
وزيرة الخارجية الكندية أشادت علنًا بدور واشنطن في مساعي السلام، في إشارة واضحة إلى رغبة حلفاء أمريكا في دعم التحرك الأمريكي، ولو بشكلٍ غير مباشر، لاحتواء التوترات المتصاعدة في المنطقة.
إلى جانب الحرب والشرق الأوسط، طرح الاجتماع ملف "أمن القطب الشمالي" كأحد العناوين الجديدة في سياسة المجموعة. هذا الملف، الذي تحوّل إلى مسألةٍ استراتيجية، خصوصًا مع تصاعد التنافس بين روسيا والغرب على الممرات البحرية والموارد الطبيعية في المنطقة القطبية.
إحياء هذا الملف في أجندة مجموعة السبع يعكس إدراكًا متأخرًا بأن الأمن في الأطراف البعيدة يوازي في أهميته الأمن في قلب أوروبا أو الشرق الأوسط.
فالتغير المناخي الذي يذيب الجليد يفتح مجالاتٍ جديدة للملاحة، لكنه في الوقت نفسه يكشف حدود السيطرة الغربية، ويُعيد رسم خريطة النفوذ من ألاسكا إلى بحر بارنتس.
تحول أوروبي
الباحث الفرنسي جان بيير دوفور، المتخصص في السياسات الأوروبية والعلاقات عبر الأطلسي، قال خلال حديثه لـ"إرم نيوز" إنّ اجتماع وزراء خارجية مجموعة السبع في كندا أطلق مرحلة جديدة من التفكير الأوروبي في معنى القوة والنفوذ.
ولفت إلى أنّ "الخطاب الغربي الذي هيمن عليه لسنوات منطق الردع والعقوبات بدأ يتحول تدريجيًا نحو رؤية أكثر هدوءًا وواقعية، تتعامل مع الأزمات كوقائع طويلة المدى، وليس كمعارك عابرة".
وأضاف أنّ هذا التحول جاء "بسبب الإنهاك السياسي والاقتصادي الذي أصاب الدول الغربية، خاصة الأوروبية منها، بعد ثلاث سنوات من الحرب في أوكرانيا وما رافقها من أعباء طاقوية ومالية واجتماعية".
وأوضح دوفور أنّ فرنسا تنظر إلى قمة كندا بوصفها لحظة اختبار للدبلوماسية الأوروبية، إذ إنّ التحدي لم يعد في مدى القدرة على مواجهة روسيا، بل في الحفاظ على وحدة الموقف الأوروبي وسط اختلاف المصالح. وقال إنّ باريس ترى أنّ الوقت قد حان لتحويل الدعم العسكري لأوكرانيا إلى دعمٍ سياسي واقتصادي منظّم.
وتحدّث دوفور عن الهوة المتزايدة بين واشنطن والعواصم الأوروبية في مقاربة الحرب الأوكرانية، قائلًا إنّ "الولايات المتحدة لا تزال تتعامل مع الصراع من منظور الردع الاستراتيجي ضد موسكو، بينما يدرك الأوروبيون أنّ الحرب تجري على حدودهم، وأنّ كلفتها الاقتصادية والسياسية تطالهم مباشرة".
رؤية أوروبية لتوازن جديد
وفي ما يتعلّق بالشرق الأوسط، أشار دوفور إلى أنّ الملف أصبح بندًا أوروبيًا بامتياز، بعدما تراجع الدور الفرنسي والإيطالي والألماني خلال العقد الأخير لصالح الولايات المتحدة.
وقال إنّ الحديث الأوروبي اليوم عن السلام الطويل الأمد في المنطقة يعكس إدراكًا بأنّ استمرار الفوضى في الشرق الأوسط ينعكس مباشرة على الداخل الأوروبي، سواء عبر الهجرة أم الإرهاب أم أسعار الطاقة.
وأضاف أنّ فرنسا تسعى إلى إعادة بناء موقعها في هذا الملف من بوابة الدبلوماسية الاقتصادية والثقافية، وليس من بوابة التدخل العسكري كما في الماضي، مشيرًا إلى أن باريس تعمل على مقاربة "تعيد وصل ما انقطع بين أوروبا وشعوب الشرق الأوسط".
أما على الصعيد الداخلي، فقد لفت دوفور إلى أنّ الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي حول الأولويات الدفاعية يضعف قدرة القارة على صياغة رؤية موحدة.
فبينما يصرّ الشمال الأوروبي على زيادة الإنفاق العسكري، يفضل الجنوب التركيز على النمو والاستقرار الاقتصادي.
وقال إنّ هذه الفجوة تُذكّر الأوروبيين بأنّ وحدتهم الحقيقية ليست عسكرية بقدر ما هي سياسية واقتصادية، وأنّ ضمان الاستقلال لا يتحقق فقط بشراء الأسلحة بل ببناء إرادة سياسية قادرة على إدارة الخلافات.
وختم دوفور حديثه بالتأكيد على أنّ أوروبا تسير "نحو مقاربة جديدة لعلاقتها بالولايات المتحدة"، قائلًا: "نحن بحاجة إلى تحالف أطلسي مرن، لا يقوم على التبعية وإنما على التكامل. أوروبا لن تنفصل عن واشنطن، لكنها أيضًا لن تقبل أن تكون مجرد ذراع تنفيذية للسياسة الأمريكية. ما نبحث عنه هو توازن واقعي يحافظ على وحدة الغرب دون أن يلغي هويته الأوروبية المستقلة".
اليابان تراقب التحول الغربي
الخبيرة اليابانية في الدراسات الأمنية ودبلوماسية المحيطين الهندي والهادئ، الباحثة اليابانية آيكا نيشيمورا، قالت خلال حديثها لـ"إرم نيوز" إنّ قمة كندا مثّلت بالنسبة لطوكيو لحظة تأملٍ استراتيجي في توازن المصالح داخل مجموعة السبع، مشيرة إلى أنّ اليابان تنظر إلى القمة من زاويةٍ مزدوجة: "بوصفها شريكًا غربيًا في الدفاع عن النظام الدولي القائم على القواعد، وبوصفها دولة آسيوية تقع في قلب منطقة تعجّ بالتوترات".
وأضافت نيشيمورا أنّ التحول في خطاب مجموعة السبع نحو مفاهيم مثل "السلام الطويل الأمد" أو "الدعم المستدام" يعكس إدراكًا غربيًا متزايدًا بأنّ التحديات المعاصرة لا يمكن حلها بالأدوات العسكرية وحدها.
وأوضحت أنّ هذا التحول يلتقي مع الفلسفة اليابانية في الأمن القائم على الردع المتوازن، والاعتماد على الشراكات الإقليمية بدل الصدام المباشر.
وفي المقابل، عبّرت نيشيمورا عن قلق طوكيو من تراجع التركيز الغربي على منطقة المحيطين الهندي والهادئ بسبب الانشغال بالحرب الأوكرانية والملفات الشرق أوسطية. وأوضحت أنّ المنطقة الآسيوية تشهد تحولات استراتيجية عميقة، من التمدد الصيني في بحر الصين الجنوبي إلى التوتر في مضيق تايوان، ومن الخطط الروسية في القطب الشمالي إلى السباق التكنولوجي العالمي.
وأضافت أنّ اليابان "تخشى أن يؤدي هذا التشتت الغربي إلى فراغٍ في ميزان الردع الإقليمي قد تستفيد منه بكين وموسكو معًا".
وتحدثت نيشيمورا عن المنظور الياباني لمفهوم السلام كأداة نفوذ، قائلة إنّ السلام بالنسبة لليابان هو فلسفة استراتيجية قائمة على تحقيق الاستقرار من خلال التنمية والتعاون الاقتصادي.
وأوضحت أن طوكيو "تسعى داخل مجموعة السبع لتوسيع مفهوم الأمن الجماعي ليشمل التكنولوجيا والاقتصاد الأخضر والذكاء الاصطناعي، لأن هذه المجالات هي التي ستحدد شكل القوة في القرن الحادي والعشرين".
وحول موقع اليابان داخل التحالفات الغربية، قالت نيشيمورا إنّ "البلاد تسعى لأن تكون الجسر بين الغرب وآسيا".
وأضافت أنّ طوكيو تحاول عبر مجموعة السبع بناء محورٍ جديدٍ متوازن يمنح دول آسيا–المحيط الهادئ وزنًا أكبر في صنع القرار، بحيث لا تبقى القضايا الآسيوية رهينة الرؤية الأوروبية أو الأمريكية.
وختمت نيشيمورا قائلة إنّ اجتماع كندا أظهر أن العالم لم يعد منقسمًا ببساطة بين شرقٍ وغرب، بل بين من يريد بناء توازنٍ مستدام ومن لا يزال أسير منطق الهيمنة.
وأضافت أن اليابان ترى في هذا التحول فرصة تاريخية لتثبيت مفهوم جديد للقيادة الدولية، يقوم على الصبر والدبلوماسية الطويلة المدى.