تشكلت ملامح صدام غير مألوف بين القارة الأوروبية وواشنطن، بعد أن دفعت باريس وبرلين ولندن نحو صياغة اتفاق مضاد لخطة السلام التي يطرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
الاتفاق الأوروبي ولد في اجتماعات مغلقة بجنيف خلال الأيام الماضية، لكنه سرعان ما تحول إلى محور مواجهة مفتوحة حول مستقبل الجيش الأوكراني وحدود الدولة وسيادتها.
تقول مصادر أوروبية إن مقترح الترويكا لا يهدف فقط إلى تعديل خطة ترامب، بل إلى منع ما تعتبره تجريدًا لأوكرانيا من قدرتها العسكرية وتمهيدًا لفرض تنازلات إقليمية مؤلمة.
وتضمن المقترح الأوروبي، رفع سقف حجم القوات الأوكرانية إلى 800 ألف جندي في أوقات السلم، بدل الحد الأمريكي البالغ 600 ألف، إضافة إلى رفض أي صيغة تُلزم كييف بالاعتراف بضم الأراضي التي تسيطر عليها موسكو، مع التأكيد على أن خط التماس هو نقطة البدء الوحيدة المقبولة للمفاوضات.
وتشير التسريبات إلى أن المقترح الأوروبي يمنح أوكرانيا ضمانات أمنية تشبه المادة الخامسة في الناتو لكن خارج هيكل الحلف، وهو ما اعتبرتها الولايات المتحدة مناورة تُضعف الضغط الذي تمارسه على كييف للقبول بخطة ترامب ذات الـ28 بندًا.
وخلال الساعات الماضية، دخلت لندن على الخط عبر اتصالات مكثفة مع الرئيس فولوديمير زيلينسكي للتنسيق حول ما تصفه بـ"خط الدفاع السياسي الأخير" لمنع انهيار موقف كييف التفاوضي.
وبدا زيلينسكي في موقف أكثر حذرًا، مؤكدًا أن بلاده تقف أمام الاختيار الأصعب منذ اندلاع الحرب، وهو إما القبول بتنازلات موجعة على حساب السيادة أو الدخول في شتاء سياسي وعسكري قاسٍ قد يفقد أوكرانيا دعم أهم شركائها.
وسرعان ما أبلغ الرئيس الأوكراني زعماء الترويكا بأنه سيعرض بدائل تحفظ كرامة أوكرانيا، في إشارة صريحة إلى دعمه للمقترح الأوروبي المضاد.
المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، محمود الأفندي، يرى أن الحديث عن اتفاق مضاد بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ودول "الترويكا الأوروبية" لمواجهة خطة الرئيس ترامب، يبدو أقرب إلى محاولة للتمرد على الخطة الترامبية، وليس مبادرة حقيقية لصياغة بديل متماسك.
وقال الأفندي لـ"إرم نيوز" إن جوهر التساؤل الآن هو لماذا يتم هذا التمرد الآن؟ موضحًا أن الأوروبيين استشعروا أن زيلينسكي بات خاضعًا لضغوط أمريكية بعد فتح هيئة مكافحة الفساد الأوكرانية ملفات على قيادات في كييف، وهو ما وصفه بـ"السيف الأمريكي" المسلط على الرئيس الأوكراني.
وأشار إلى أن الأوروبيين يحاولون منع واشنطن من توسيع هذه التحقيقات حفاظًا على موقع زيلينسكي، لكن الولايات المتحدة باتت ترى الصراع استنزافًا غير ضروري، بعدما نجحت في إخراج روسيا من المشهد الاقتصادي الأوروبي.
واعتبر الأفندي أن رغبة ترامب في إنهاء الحرب وإعادة العلاقات التجارية مع موسكو تمثل مسارًا يعزز إمكانية تسوية شاملة، بينما تبدو محاولات أوروبا للالتفاف على هذه الخطة "يائسة" في رأيه.
وأوضح الأفندي أن اجتماع الترويكا يمثل خطوة أولى فقط لمناقشة المقترحات، وأن النقاط المطروحة ليست نهائية وقد تشكل أساسًا لتسوية مستقبلية.
ولفت إلى أن استمرار رفض هذه البنود سيدفع روسيا لمواصلة عملياتها العسكرية، وفي الوقت نفسه قد ترفع الولايات المتحدة دعمها عن الأوروبيين وتتركهم وحدهم في المواجهة.
وقال الأفندي، إن الأوروبيين وزيلينسكي يبدون وكأنهم في وضع "Zugzwang" الشهير في لعبة الشطرنج، حيث يؤدي كل تحرك إلى خسارة أكبر، مشددًا على أن القبول بخطة البنود الـ28 قد يكون الخيار الوحيد لتجنب كارثة سياسية وعسكرية أكبر.
من جهة ثانية، أكد المحلل السياسي والخبير في الشؤون الأوروبية كارزان حميد، أن الأنظار الدولية تتجه إلى موقف أوكرانيا من خطة وقف إطلاق النار التي طرحها الرئيس الأمريكي، مشيرًا إلى أن المعارضة الأوروبية لهذه الخطة خلف الكواليس ليست أكثر من "عاصفة في فنجان".
وقال حميد لـ"إرم نيوز" أن أوروبا فقدت معظم أدواتها التفاوضية مع واشنطن بعد فرض رسوم جمركية بنسبة 15% واتفاقات اقتصادية ضخمة، ما جعلها في موقع ضعف منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022.
وأشار إلى أن دولًا أوروبية مثل فرنسا وإسبانيا بدأت توقيع اتفاقيات تسليح فردية مع كييف، لإثبات حضورها قبل أن تميل الكفة لصالح موسكو.
ورأى حميد، أن الأوروبيين يسابقون الوقت لإبرام التزامات ثنائية مع زيلينسكي قبل أن يجبر على القبول بخطة أشبه بالاستسلام.
وأكد أن أحد بنود الخطة يشير إلى وقف إمدادات السلاح وتبادل المعلومات في حال الرفض، معتبرًا أن بريطانيا ستسعى لعرقلة هذه الخطة ودفع كييف إلى استمرار القتال، بما يعني مزيدًا من خسارة الأراضي.
وأشار إلى أن الرئيس الأوكراني بات بين خيارين، فقدان الكرامة أو فقدان الحليف الاستراتيجي، مؤكدًا أن الأمر يرتبط بمصير زيلينسكي نفسه، وليس بمصير أوكرانيا بالكامل، خاصةً وأن المطالب الروسية منذ بداية الحرب بدأت تتحقق اليوم ولكن عبر أدوات غربية.
وأضاف أن رفض أوروبا للخطة الترامبية سيستفز الإدارة الأمريكية من جهة، ويمنح موسكو فرصة لإهانة التكتل الأوروبي من جهة أخرى، ما يعرض أوروبا لفقدان مصداقيتها السياسية، وفي المقابل، فإن قبول الخطة سيعيد القارة إلى نقطة البداية بعد خسائر اقتصادية بمليارات اليوروهات ودون أي مكاسب واضحة.
وقال حميد، إن موقف بروكسل لا يقل هشاشة عن موقف أوكرانيا نفسها بل ربما يكون أكثر خطورة، لأن أي قرار ستتخذه قد يؤدي إلى تداعيات استراتيجية تتجاوز أوكرانيا وتمس مستقبل الأمن الأوروبي بأكمله.