قال خبراء إن روسيا خلال الأسابيع الأخيرة تسعى إلى تسريع تحركاتها العسكرية في إقليم دونباس، في وقت تتزايد فيه المؤشرات على اقتراب جولة جديدة من المفاوضات حول مستقبل الحرب في أوكرانيا.
وأضافوا في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أنه مع التطورات المتلاحقة خلال كانون الأول/ ديسمبر الجاري، تعتبر موسكو السيطرة الكاملة على الإقليم خطوة حاسمة لترتيب موقعها التفاوضي قبل الدخول في أي حوار جاد مع الولايات المتحدة أو أوكرانيا.
وخلال الساعات الماضية، أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن السيطرة على دونباس والمناطق الشرقية والجنوبية من أوكرانيا ستتم "بطريقة أو بأخرى"، سواء عبر القوة العسكرية أو عبر انسحاب القوات الأوكرانية.
ووفق تصريحات بوتين، فإن موسكو عرضت على كييف خيار الانسحاب من دونباس لوقف القتال، إلا أن القيادة الأوكرانية تفضل استمرار المواجهة.
وجاءت هذه الرسائل متزامنة مع تقدم ميداني واضح، حيث تشير البيانات الروسية إلى أن موسكو باتت تسيطر على نحو 80% من الإقليم بما يشمل مناطق واسعة في دونيتسك ولوغانسك.
وأعلن الكرملين أن القوات الروسية سيطرت على مدينة بوكروفسك الإستراتيجية في دونيتسك، وهو تطور يراه خبراء خطوة متقدمة في مسار الهيمنة العسكرية.
وأظهر تحليل لوكالة "فرانس برس" أن روسيا حققت في تشرين الثاني/ نوفمبر أكبر مكاسب لها منذ عام، بسيطرتها على نحو 701 كيلومتر مربع خلال شهر واحد، في إشارة إلى التحول السريع في ميزان القوى على الجبهة الشرقية.
وهذا التقدم المتسارع لا يظهر معزولًا عن سياق سياسي موازٍ، إذ يرى مراقبون أن موسكو تسعى لاستخدام المكاسب الميدانية كورقة ضغط رئيسية قبل الدخول في مفاوضات أكثر عمقًا.
وأكد المساعد الرئاسي الروسي يوري أوشاكوف أن النجاحات العسكرية كان لها "تأثير إيجابي" على اللقاء الذي جمع بوتين بالمبعوث الأميركي ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، مشيرًا إلى أن المكاسب الروسية "دفعت الغرب إلى رؤية أكثر واقعية لمسارات الحل".
ورغم انعقاد جلسة مطولة بين الجانبين في الـ2 من ديسمبر استمرت نحو خمس ساعات، فإن العقبات الأساسية لا تزال قائمة، وعلى رأسها مستقبل الأراضي المحتلة في دونباس.
وتصر موسكو على أن أي اتفاق سلام يجب أن يضمن سيطرتها الكاملة على الإقليم، إلى جانب تعهد رسمي من الناتو بعدم انضمام أوكرانيا مستقبلًا، مع فرض قيود على قدرات الجيش الأوكراني.
وهذه الشروط تشكل نقطة خلاف كبيرة، خاصة أن كييف ترفض التنازل عن أي جزء من دونباس، كما كرر الرئيس فولوديمير زيلينسكي.
وتكتسب دونباس أهمية خاصة باعتبارها منطقة غنية بصناعة الفحم والمعادن الثقيلة، وبمساحاتها الزراعية الواسعة ونقاطها الإستراتيجية المطلة على بحر آزوف.
وتُعد من الناحية التاريخية أكثر المناطق قربًا إلى الهوية الروسية، مع وجود أقلية كبيرة من الناطقين بالروسية؛ ما يجعلها بالنسبة لموسكو عنصرًا جوهريًّا في حسابات الأمن القومي.
ويرى الخبراء أن روسيا تُسرّع خطواتها في دونباس باعتبارها "ورقة القوة" التي تراهن عليها قبل أي مفاوضات جدية، خاصة أن موسكو لا تزال ترى أن الحسم السريع في لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا سيمنحها موقعًا تفاوضيًّا متقدمًا.
وأشار الخبراء في تصريحات لـ"إرم نيوز"، إلى أن التقديرات الأوكرانية تحذر من أن أي انسحاب أو تنازل قد يعيد مشهد الانهيار في الجبهة، وذلك في ظل استياء روسي من مسار التفاوض وتعقّد الملفات الخلافية التي ارتفعت إلى 20 نقطة.
في البداية، قال الدبلوماسي الأوكراني السابق فولوديمير شوماكوف إن الهدف الأساسي لروسيا كان ولا يزال "السيطرة الكاملة" على أوكرانيا ومنعها من الخروج من نطاق النفوذ الروسي.
وأكد شوماكوف لـ"إرم نيوز" أن هذا الدافع هو ما قاد إلى الهجوم الروسي الواسع عام 2022، موضحًا أن موسكو كانت تتوقع حسم المعركة خلال 3 أيام فقط وفرض سيطرتها على كييف خلال شهر واحد.
وأوضح الدبلوماسي الأوكراني أن فشل القوات الروسية في تحقيق هذا السيناريو، خاصة بعد معركة كييف وما تبعها من تراجع واسع، دفع موسكو إلى إعادة صياغة إستراتيجيتها.
وأشار إلى أن القوات الروسية التي كانت تسيطر على نحو 60% من محافظة خاركيف، اضطرت في نهاية أيلول/ سبتمبر 2022 إلى الانسحاب تحت ضغط الهجوم الأوكراني المضاد.
وأكد أن روسيا، وبعد هذه الخسائر، قررت العودة إلى "خيار الاستنزاف" في الشرق، مشيرًا إلى أنها ركزت عملياتها على منطقتي لوغانسك ودونيتسك اللتين هاجمتهما منذ عام 2014.
ولفت إلى أن موسكو نجحت حينها في احتلال عاصمتي المحافظتين بسبب غياب القوات الأوكرانية الكافية، مؤكدًا أن روسيا "هاجمت أوكرانيا غدرًا" رغم اعتبار الشعبين شقيقين.
وكشف شوماكوف أن أوكرانيا ترى اليوم أن روسيا غارقة في "مستنقع حرب طويلة"، وأن تقديرات تحليلية تشير إلى أن موسكو قد تحتاج إلى عامين أو ثلاثة إضافية لتحقيق أهدافها، محذرًا من تقديم أي "هدية مجانية" قد تمكن روسيا من تحقيق تقدم جديد.
وشدد الدبلوماسي الأوكراني السابق على أن الإرادة الوطنية الأوكرانية ثابتة، وأن الدستور يمنع التنازل عن أي أراضٍ، معتبرًا أن الانسحاب من أي منطقة بحجة السلام سيكون خطأ إستراتيجيًّا، خاصة أن روسيا انتهكت اتفاقيات سابقة مثل اتفاقية 1997 ومذكرة بودابست التي تخلت أوكرانيا بموجبها عن أسلحتها النووية.
وحذر من أن روسيا "بلد غير جدير بالثقة"، مشيرًا إلى أن انسحاب القوات الأوكرانية من أي منطقة لا توجد فيها تحصينات دفاعية سيخلق فراغًا يسمح بالتقدم الروسي ويهدد بانهيار واسع في الجبهة.
ومن جانبه، أكد الخبير في الشؤون الروسية نبيل رشوان أن مسار المفاوضات حول الأزمة الأوكرانية لا يزال "غامضًا"، موضحًا أنه لا أحد يعرف موعد انعقادها بشكل دقيق حتى الآن.
وذكر رشوان لـ"إرم نيوز" أن هناك زيارات مكوكية يجريها المبعوثان الأمريكيان ويتكوف وكوشنر، لافتًا إلى اجتماعهما مع الوفد الأوكراني في ميامي عقب زيارة سابقة لهما إلى موسكو.
وأشار رشوان إلى أن موسكو عبّرت عن عدم رضاها عن بعض النقاط المطروحة، موضحًا أن عدد الملفات الخلافية ارتفع من 19 إلى 20 نقطة، بعدما كان 28 نقطة في مراحل سابقة؛ ما يعني أن التوافق لا يزال بعيدًا.
وكشف أن التعقيد يتزايد بشأن دونباس، حيث ضمت روسيا "فعليًّا" لوغانسك ودونيتسك، وتسعى الآن إلى ضم زاباروجيا، وهي المنطقة المحاذية لدونيتسك.
ولفت المحلل السياسي إلى أن ضم زاباروجيا سيمنح موسكو السيطرة الكاملة على بحر آزوف، وهو بحر مغلق لا يفصله عن البحر الأسود سوى مضيق كيرتش، وهو ما يمثل بالنسبة لروسيا "ميزة إستراتيجية كبرى".
وأوضح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صرح مؤخرًا بأنه يطالب القوات الأوكرانية بالانسحاب من دونباس، معتبرًا أن روسيا ستحصل على المنطقة في كل الأحوال "عسكريًّا أو تفاوضيًّا".
وأكد رشوان أن الأزمة لا تزال بعيدة عن أي اتفاق حقيقي، رغم الوساطة الأمريكية، مشيرًا إلى أن الموقف الأوروبي يتسم بـ"تعنت شديد" لأنه يرفض الاعتراف بأن أي جزء من الأراضي الأوكرانية بات روسيًّا.
وكشف عن صدفة سياسية لافتة، إذ تتزامن الاتصالات الحالية مع الذكرى الـ31 لمذكرة بودابست التي حصلت أوكرانيا بموجبها على ضمانات لأمنها مقابل التخلي عن أسلحتها النووية؛ ما يجعل المفاوضات الحالية مرتبطة مجددًا بقضية "ضمانات السيادة".
وأشار الخبير إلى أن روسيا تحاول توسيع سيطرتها في خاركيف وزاباروجيا عبر هجمات متتالية، مؤكدًا أنها تسيطر بالفعل على الجزء الجنوبي من زاباروجيا، حيث تقع "أكبر محطة طاقة نووية في أوروبا"، بينما يبقى الجزء الشمالي تحت السيطرة الأوكرانية.
وقال رشوان إن ما تبقى من دونباس لم يُحسم بعد، خاصة في باكروفسك وكستناتينيفكا، وهو ما يدفع موسكو للمطالبة بانسحاب أوكرانيا من هذه المناطق، موضحًا أن روسيا ترغب، إذا جرى اتفاق أو وقف إطلاق نار، في تثبيت خطوط التماس الحالية كحدود إدارية لمقاطعتي دونيتسك ولوغانسك، أي منطقة دونباس على الأقل في المرحلة الراهنة.