مسيّرة تستهدف سيارة على طريق بلدة مركبا جنوبي لبنان
تحوّلت الدنمارك خلال السنوات الأخيرة إلى مختبر أوروبي لتجربة أكثر سياسات اللجوء تشددًا، بعدما نجحت حكوماتها، بما فيها حكومات يسار الوسط، في خفض أعداد طالبي اللجوء بشكل غير مسبوق، فيما وصفه مراقبون بأنه "سلاح سياسي" ذو حدين.
وكشفت "نيويورك تايمز"، في تقرير لها أن هذه التجربة التي ينظر إليها قادة أوروبيون كمرجع عملي، أظهرت في الوقت نفسه هشاشة التوازن بين كبح تدفقات اللاجئين والحفاظ على دعم المجتمع، في ظل مؤشرات سياسية واجتماعية بدأت تطرح أسئلة حول جدوى استمرار هذا النهج المتشدد.
ومنذ أزمة اللجوء في 2015، اعتمدت الدنمارك سلسلة إجراءات جعلت الوصول إليها أكثر صعوبة، بدءًا من تشديد الحصول على الإقامة الدائمة، مرورًا بإطالة فترات الانتظار، وصولًا إلى مراكز احتجاز مفتوحة أشبه بمناطق عزل اجتماعي، مثل: مركز أفنستراب الذي بات رمزًا لسياسة "الإحباط المنهجي"، وهذه الإجراءات، رغم رمزيتها في بعض الأحيان، مثل: قانون مصادرة المجوهرات من طالبي اللجوء، كانت تهدف إلى إرسال رسالة واضحة: الدنمارك لم تعد بلدًا جاذبًا لمن يفكر بالعبور إلى أوروبا.
ورغم الجدل الذي أثارته السياسات في الدنمارك، فإنها حققت هدفها الأساسي؛ فقد تراجع عدد طالبي اللجوء من 21 ألفًا في 2015 إلى نحو ألفي طلب فقط العام الماضي؛ ما جعل الدنمارك في ذيل قائمة الدول الأوروبية من حيث عدد طلبات اللجوء، وهذا الانخفاض شجّع سياسيين في أنحاء أوروبا، خصوصًا في بريطانيا وغيرها، على دراسة النموذج الدنماركي واعتباره خيارًا قابلًا للتطبيق.
لكن يُحذر الخبراء من أن هذا النجاح الظاهري كشف انقسامات خطيرة في المجتمع الدنماركي؛ إذ أظهرت الانتخابات البلدية الأخيرة في الدنمارك تحولًا واضحًا في المزاج السياسي، بعدما خسر الحزب الاجتماعي الديمقراطي السيطرة على كوبنهاغن للمرة الأولى منذ أكثر من قرن، في إشارة إلى أن جزءًا من قاعدته التقليدية لم يعد متقبلًا للنبرة المتشددة تجاه الأجانب، كما رأى بعض الناخبين أن خطاب الحكومة بات أقرب إلى اليمين الشعبوي، بينما أعرب آخرون عن قلقهم من أن القوانين تُعمّق إحساس المهاجرين بأنهم غير مرحب بهم.
ويعتقد مراقبون أن هذه الانتقادات تتقاطع مع تحذيرات قانونيين ومنظمات حقوقية من "سباق نحو القاع"، حيث تصبح الظروف القاسية أداة للردع لا وسيلة لحماية النظام الاجتماعي، ويرى عدد من الباحثين أن هذه السياسة قد تترك آثارًا طويلة المدى، ليس على طالبي اللجوء فحسب، بل على الجيل الثاني من المهاجرين الذين يشعرون بأنهم جزء من مجتمع يبعث لهم برسائل متناقضة حول الانتماء.
وحتى بعض مهندسي هذه السياسة بدؤوا يعترفون بأن التشدد ليس حلًّا شاملًا؛ إذ شدد لارس لوكه راسموسن، حين تبنت الدنمارك جزءًا كبيرًا من هذه الإجراءات، على ضرورة تبنّي "نهج متوازن" يجمع بين ضبط الحدود واستقبال من تحتاجهم البلاد اقتصاديًّا وديمغرافيًّا، مضيفًا أن بعض القوانين، مثل: قانون المصادرة، حمّلت البلاد كلفة سياسية ورمزية أكبر من تأثيرها العملي.
ورغم أن التجربة الدنماركية تبدو مغرية لقادة أوروبيين يبحثون عن حلول سريعة لقضية الهجرة، فإن تطبيقها عمليًّا كشف أنها سياسة ذات كلفة اجتماعية وسياسية، وبينما يواصل بعض طالبي اللجوء، التمسك بالبقاء رغم الظروف القاسية، يعود النقاش الأوروبي إلى أصل المشكلة: هل الردع وحده يكفي، أو أن التشدد قد يتحول في النهاية إلى عبء سياسي واجتماعي يصعب احتواؤه؟