تمددت السياسة الخارجية الإيرانية خلال العقود الأخيرة، متجاوزة حدود الشرق الأوسط، وبرزت أمريكا اللاتينية وخاصة فنزويلا كإحدى الساحات الجديدة لهذا التوسع.
تمتد هذه الشراكة عبر مسارات سياسية واقتصادية ولوجستية، تشمل تبادل النفط والمشتقات، وإرسال قطع غيار ومستشارين فنيين، إضافة إلى شبكات تجارية مرنة تُستخدم للالتفاف على العقوبات.
ويعود التعاون الواسع بين إيران وفنزويلا إلى عهد هوغو تشافيز، الذي روّج لمفهوم "الجبهة المناهضة للإمبريالية"، ومع وصول نيكولاس مادورو إلى السلطة، توسعت هذه العلاقات، خصوصًا في مجال الطاقة والتكرير.
فقد أرسلت طهران بنزينًا ومشتقات وقطع غيار، إضافة إلى خبراء وفنيين لدعم الصناعة الفنزويلية المنهارة، وذلك في مقابل ترتيبات مقايضة تشمل الذهب أو سلعًا أخرى في بعض الفترات. وقد مكّن هذا التعاون فنزويلا من الالتفاف على العقوبات الأمريكية، ووفّر لإيران منفذًا اقتصاديًّا وسياسيًّا في غرب الكرة الأرضية.
وفي هذا السياق، يقدّم ثلاثة من المحللين الإيرانيين رؤية حول دوافع واشنطن، وحدود تدخلها العسكري، وتأثير ذلك في طهران وسياستها الخارجية.
كما يرون أن إضعاف فنزويلا قد يوجّه رسالة غير مباشرة لإيران، لكنها لن تشكّل تهديدًا فعليًّا مقارنة بالضغوط المباشرة التي تتعرض لها طهران في الشرق الأوسط.
وقال المحلل في قضايا السياسة الخارجية أمير علي أبو الفتح، إن أي مواجهة عسكرية محتملة بين الولايات المتحدة وفنزويلا ستكون لها انعكاسات غير مباشرة على إيران، رغم أن العلاقة بين طهران وكاراكاس لا تجعل من إيران طرفًا مباشرًا في النزاع.
وأوضح أبو الفتح في حديثه لـ"إرم نيوز"، إنه في حال وقوع حدث كبير يؤدي إلى إسقاط حكومة نيكولاس مادورو وصعود حكومة موالية لواشنطن في كاراكاس، فإن العلاقات الفنزويلية-الإيرانية ستتراجع أو قد تُقطع بالكامل.
ويضيف: "قد تُمحى أيضًا كل استثمارات إيران في فنزويلا، فالعلاقات الوثيقة بين البلدين مرتبطة بدرجة كبيرة بالموقف السياسي لحكومة مادورو".
ويشير الخبير الإيراني إلى أن التحليلات المبالغ فيها في بعض وسائل الإعلام تربط أي توتر بين واشنطن وكاراكاس بشكل آلي بإيران، بينما "لا وجود لارتباط مباشر"، مبينًا أن "العلاقات بين البلدين تعتمد أساسًا على التعاون في مجال النفط، والاقتصاد، والالتفاف على العقوبات، وهو تعاون يُثير حساسية واشنطن أحيانًا، لكنه ليس العامل الجوهري في النزاع الأمريكي-الفنزويلي".
ويشير أبو الفتح ضمن ما يُعرف بـ"تأثير الفراشة"، أي أن حدثًا في نقطة ما من العالم يمكن أن يخلق لاحقًا تداعيات غير متوقعة في بقعة أخرى، مضيفًا "رغم العلاقات القريبة بين إيران وفنزويلا، فإن موقع كاراكاس الجغرافي البعيد يجعل تأثير أي تغيير سياسي هناك محدودًا مقارنة بما يحدث في دول مثل: سوريا، والعراق، ولبنان".
ويؤكد أنه حتى إذا تغيّرت حكومة فنزويلا، "فلن تؤثر هذه التطورات في مكانة إيران الإقليمية"، لأن فنزويلا ليست جزءًا من "محور المقاومة أو من المعادلة الأمنية للشرق الأوسط" على حد تعبيره.
وحول ما إذا كانت الحرب بين واشنطن وكاراكاس بمنزلة رسالة إلى طهران، يرى أبو الفتح أن الأمر معكوس، ويقول "إذا كانت هناك رسائل للضغط على إيران، فقد أُرسلت خلال الحرب التي استمرت 12 يومًا ضد إيران قبل نحو ستة أشهر. فما الذي سيحدث في فنزويلا ليعد رسالة جديدة إلى طهران؟".
ويختتم قائلًا "ليست هذه المرة الأولى التي تهاجم فيها الولايات المتحدة دولة ما. لكن المسافة الجغرافية الكبيرة تجعل من الصعب اعتبار هجوم أمريكي على دولة في الطرف المقابل من العالم رسالة موجهة إلى إيران. الرسائل تكون واضحة عندما يتعلق الأمر بلبنان أو العراق أو اليمن، لا بفنزويلا التي تبعد آلاف الكيلومترات".
ويرى الكاتب والمحلل السياسي الإصلاحي أحمد زيد آبادي أن سقوط نيكولاس مادورو لن يقتصر أثره في الداخل الفنزويلي، بل سيمتد ليصيب أحد أهم مراكز النفوذ الإيراني خارج الشرق الأوسط.
وقال لـ"إرم نيوز"، "فنزويلا شكّلت لطهران، طوال العقدين الماضيين، منصة مالية ولوجستية ساعدتها على الالتفاف على العقوبات الأمريكية ونسج شبكات نفوذ تمتد إلى جماعات حليفة مثل حزب الله".
ويؤكد زيد آبادي أن أي حكومة جديدة موالية لواشنطن ستتجه بطبيعة الحال إلى تفكيك هذه الشبكات وإغلاق القنوات التي استفادت منها إيران، وهذا يعني أن حزب الله، الذي يرتبط بنشاطات واسعة في أمريكا الجنوبية، سيواجه ضغطًا غير مسبوق إذا تعاونت كاراكاس الجديدة مع الولايات المتحدة في ملاحقة الكيانات المرتبطة بطهران".
وبحسب زيد آبادي، فإن خسارة فنزويلا ستقوض أحد أهم منافذ إيران الإستراتيجية خارج الإقليم، في وقت تتصاعد فيه التحديات التي تواجهها في الشرق الأوسط؛ ما يجعل مستقبل مادورو جزءًا من معادلة إقليمية ـ دولية تتجاوز حدود أمريكا اللاتينية.
من جهته، يسلّط الكاتب والمحلل السياسي الإيراني الضوء على البعد الداخلي للأزمة، مؤكدًا أن حكومة مادورو تعاني "انقسامًا اجتماعيًّا واسعًا بين مؤيدين من الطبقات الفقيرة ومعارضين من الطبقات الوسطى والعليا، وتراجع الشرعية الدولية نتيجة انتخابات مثيرة للجدل، وعزلة سياسية رغم العلاقات مع روسيا والصين، اللتين لا تبدوان مستعدتين لتحدّي واشنطن عسكريًّا".
وبحسب الكاتب، فإن ترامب –مثل الإدارات السابقة– ينظر إلى فنزويلا بوصفها فرصة لإعادة تشكيل موازين القوى، وقد يلجأ إلى ضربة مركّزة أو عملية محدودة لإسقاط القيادة دون التورط في حرب شاملة.
ويرى الخبير في الشؤون الأمريكية علي بيغدلي أن احتمالات شنّ حرب واسعة على فنزويلا لا تزال ضعيفة، بسبب ثلاثة عوامل رئيسية هي: "غياب التأييد الشعبي للحروب في الولايات المتحدة، والحاجة إلى موافقة الكونغرس لأي عملية عسكرية كبيرة وفق قانون صلاحيات الحرب، وحساسية الإدارة الأمريكية تجاه الخسائر البشرية التي قد تضعف الرئيس أمام الرأي العام".
ويضيف بيغدلي لـ"إرم نيوز"، أن واشنطن تميل عادة إلى الضربات المحدودة أو دعم الانقلابات الداخلية بدلًا من التدخل المباشر، خاصة في الدول اللاتينية حيث تمتلك خبرة طويلة في هذا النوع من العمليات.
ويشير بيغدلي إلى أن الاتهامات الأمريكية لفنزويلا بتهريب المخدرات أو الإرهاب لا تستند إلى معطيات حقيقية، موضحًا أن تقارير وزارة العدل الأمريكية الأخيرة لم تذكر فنزويلا ضمن الدول المتورطة في شبكات تهريب المخدرات.
ويرى أن الهدف الحقيقي هو السيطرة على الموارد النفطية الهائلة وإعادة هندسة النفوذ الأمريكي في نصف الكرة الغربي.
وعند سؤاله عن تأثير ذلك في إيران، يقول بيغدلي إن "هناك احتمالًا بزيادة الضغط الدولي على طهران إذا ربطت واشنطن هذه الشبكات بسلوكيات مزعزعة للاستقرار"، مبينًا "إمكانية ارتداد تكاليف العمليات الخارجية على الداخل الإيراني إذا ظهرت فضائح مالية أو لوجستية مرتبطة بالملف الفنزويلي".