في قلب آسيا الوسطى، تقف طاجيكستان أمام مفارقة صارخة: بلد غني بالمياه، لكنه يعاني العطش؛ فبينما تمتلك الدولة آلاف الأنهار الجليدية التي تغذي أكثر من 25 ألف نهر وتمنحها نحو ثلثي احتياطيات المياه في المنطقة، يعيش الملايين من سكانها دون إمكانية الوصول إلى مياه شرب آمنة.
وتشير الأرقام الرسمية لعام 2023 إلى أن 41% فقط من السكان، البالغ عددهم نحو 10 ملايين نسمة، يتمتعون بمياه نظيفة، في حين لا تتجاوز نسبة الارتباط بشبكات الصرف الصحي 15%، وهو الأدنى في آسيا الوسطى، بحسب صحيفة "يوراسيان تايمز".
وراء هذه المفارقة يكمن مزيج معقد من الفقر، وتهالك البنية التحتية، وسوء الإدارة السياسية. فشبكات المياه في البلاد تعود بمعظمها إلى الحقبة السوفيتية، وتضررت بشدة خلال الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، بينما تفتقر الحكومة اليوم إلى التمويل الكافي لإصلاحها.
وفي العديد من المناطق، توقفت المحطات عن العمل أو تعمل بطاقة محدودة، تاركة آلاف الأسر تعتمد على مصادر مياه ملوثة وغير آمنة.
في القرى الريفية مثل بلخ (المعروفة سابقًا باسم كولخوزوبود)، تحوّل النهر المحلي إلى مصدر تلوث يومي. يستخدمه السكان لري المحاصيل وغسل الأواني والملابس، رغم احتوائه على بقايا مبيدات حشرية ونفايات منزلية.
ويقول أحد السكان لوكالة "فرانس برس": "بعد ري المحاصيل، تصلنا مياه موحلة مليئة بالأوساخ. نغليها قبل الشرب، لكن الأمراض لا تتوقف".
تؤكد دراسة نُشرت في مجلة Nature أن طاجيكستان تسجل في المتوسط أكثر من 1,600 وفاة سنويًا بسبب المياه غير الآمنة، بين عامي 1990 و2020. وتشير أبحاث حديثة إلى أن الاتجاه التصاعدي في هذه الوفيات سيستمر مع تزايد عدد السكان وتدهور جودة المياه.
وفي بعض المناطق القاحلة، مثل إقليم خاتلون الحدودي مع أفغانستان، تُعد المياه المنقولة عبر شاحنات إلى خزانات المنازل سلعة ثمينة؛ إلا أن هذه المياه تتعفن بسرعة وتُستبدل كل بضعة أسابيع، فيما يواجه السكان درجات حرارة تتجاوز 40 درجة مئوية صيفًا.
باعتبارها أفقر جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، تواجه طاجيكستان عبئًا اقتصاديًّا ثقيلًا يعوق تطوير بنيتها التحتية.
يتوقع البنك الأوراسي للتنمية أن يبلغ عجز تمويل قطاع المياه 1.2 مليار دولار بحلول عام 2030، ما يضع البلاد أمام أزمة تمويل حقيقية.
على الصعيد السياسي، جعل الرئيس إمام علي رحمان، الذي يحكم البلاد منذ عام 1992، من “دبلوماسية المياه” محورًا لسياسته الخارجية.
فقد سعى إلى تمرير قرارات أممية تؤكد على “حق الدول الجبلية في إدارة مواردها المائية”، مقدّمًا بلاده كنموذج للدولة التي يمكن أن تحوّل الأنهار الجليدية إلى طاقة وتنمية؛ لكن داخليًّا، يظل المواطن الطاجيكي محاصرًا بين الوعود الرسمية والواقع اليومي للعطش والتلوث.
كما أطلقت الحكومة هذا العام خطة وطنية تمتد على 15 عامًا لتأمين مياه الشرب والصرف الصحي في جميع أنحاء البلاد، إلا أن التنفيذ يسير ببطء في ظل ضعف الموارد والبيروقراطية المعقدة.
في ظل تغير المناخ وذوبان الأنهار الجليدية، تتجه طاجيكستان نحو مستقبل مائي غامض؛ والمفارقة المؤلمة أن الدولة التي تُغذي المنطقة بالمياه، قد تجد نفسها عطشى.
وبين فقرٍ مزمن، وبنيةٍ تحتية متهالكة، وسياسةٍ تركز على الرموز أكثر من الحلول، تبدو الأزمة المائية في طاجيكستان صورة مكثفة لمأزق آسيا الوسطى بأكملها: وفرة طبيعية تتبدد في غياب إدارة فعّالة ورؤية تنموية شاملة.
ويبقى السؤال الحاسم: هل تستطيع طاجيكستان تحويل "كنزها المائي" إلى ضمانة للحياة، أم ستظل ضحية مثلث الفقر والبنية التحتية والسياسة الذي يخنق مواردها ويعمّق عطشها؟