logo
العالم

حدود بلا حل.. كيف أفلتت أزمة تايلاند وكمبوديا من قبضة آسيان؟

راجمة صواريخ كمبودية قرب حدود تايلاند بعد اشتباكات تموزالمصدر: رويترز

يتجدد النزاع الحدودي بين  تايلاند وكمبوديا، الممتد منذ أكثر من سبعة عقود، ليكشف عن مزيج معقد من الترسبات التاريخية والطموحات السياسية في جنوب شرق آسيا؛ فمع اشتعال المواجهات مجددا في يوليو 2025، ونزوح أكثر من 170 ألف شخص على جانبي الحدود، يبدو أن الصراع تجاوز كونه نزاعا جغرافيا إلى صراع رمزي على السيادة والهوية الوطنية.

يتركز الخلاف حول عدة مواقع أثرية ومعابد هندوسية من عهد الخمير، أبرزها معبد براسات تا موين ثوم ومعبد برياه فيهير المدرج على قائمة التراث العالمي. 

وبالنسبة لتايلاند، تمثل هذه المعالم جزءا من مشروع وطني لإحياء الهوية التاريخية وإعادة الاعتبار للأراضي التي فقدتها في ظل الحقبة الاستعمارية. أما بالنسبة لكمبوديا، فهي رمز للسيادة الثقافية والتاريخية، والتفريط فيها يُعد مساسا مباشرا بكرامة الدولة.

أخبار ذات علاقة

ترامب مهنئاً بعد توقيع الاتفاق بين كمبوديا وتايلاند

"لحظة مهمة لشعوب آسيا".. ترامب يرعى اتفاق سلام بين كمبوديا وتايلاند

وبحسب صحيفة "يوراسيا رفيو"، تعود جذور النزاع إلى المعاهدات الفرنسية–السيامية مطلع القرن العشرين، حين تنازلت مملكة سيام عن أراضٍ شاسعة لصالح المستعمرات الفرنسية والبريطانية حفاظا على استقلالها؛ فهذه التسويات، التي لم تُرسم حدودها بدقة، خلّفت إرثا من الغموض الجغرافي والقانوني ظل يُغذي النزاعات الحدودية حتى اليوم.

ورغم أن محكمة العدل الدولية حسمت عام 1962 جزءا من النزاع بمنح كمبوديا السيادة على معبد برياه فيهير، فإنها تركت مسألة الأراضي المحيطة بالمعبد دون تفسير واضح؛ ما فتح الباب أمام جولات متكررة من التوتر. 

وفي عام 2013، أصدرت المحكمة تفسيرا إضافيا منح كمبوديا السيطرة على المنطقة المحيطة بالمعبد، لكن تايلاند ظلت تعتبر الحكم مجحفا ومبنيا على خرائط استعمارية غير دقيقة.

تنازع الشرعية 

تحولت القضية إلى مسرح لصراع الإرادات السياسية أكثر من كونها مسألة قانونية؛ فبينما تتمسك كمبوديا بقرارات محكمة العدل الدولية كمرجعية نهائية، ترفض تايلاند تدويل النزاع أو إدخال أطراف ثالثة، مفضّلةً تسويته عبر مفاوضات ثنائية. 

أخبار ذات علاقة

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب

ترامب يعلن عن توقيع مرتقب لاتفاق السلام بين تايلاند وكمبوديا

وترى بانكوك أن اللجوء إلى وساطة رابطة آسيان أو إلى محكمة العدل الدولية يحد من استقلال قرارها السيادي، بينما تعتبر بنوم بنه أن الحوار الثنائي مجرد وسيلة لتجميد الوضع القائم لا لحله.

في يوليو 2025، تدخلت رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) بوساطة قادتها ماليزيا، في محاولة لاحتواء الاشتباكات التي اندلعت على الحدود. 

ورغم نجاح الوساطة في فرض وقفٍ مؤقتٍ لإطلاق النار، فإنها فشلت في تحويله إلى اتفاق دائم بسبب غياب الإرادة السياسية من الطرفين.

وتُحمّل تايلاند المنظمةَ الإقليمية مسؤولية التحيز لصالح كمبوديا، في حين تتهم كمبوديا بانكوك بعرقلة أي مبادرة سلام حقيقية. 

ويعكس هذا التبادل للاتهامات تراجع الثقة الإقليمية داخل آسيان، ويؤكد أن الخلافات التاريخية بين أعضائها ما زالت تتفوق على مفهوم "الهوية الجماعية" الذي قامت عليه المنظمة منذ تأسيسها.

ويرى محللون أن تايلاند تسعى، في ظل القيادة الحالية، إلى إعادة صياغة سرديتها التاريخية وتصحيح ما تعتبره تنازلات مجحفة أُجبرت عليها خلال الحقبة الاستعمارية. 

أما كمبوديا فتنظر إلى النزاع بوصفه اختبارا لسيادتها واستقلالها، خصوصا في ظل ضغوط داخلية وخارجية للحفاظ على وحدة الدولة وثقة الشارع.

اختبار صعب لآسيان

أثبت النزاع الحدودي بين تايلاند وكمبوديا أنه اختبار جوهري لقدرة آسيان على إدارة الأزمات الإقليمية؛ فعلى الرغم من أن ميثاق المنظمة ينص على احترام السيادة الوطنية والتسوية السلمية للنزاعات، إلا أن مبدأ "الإجماع" الذي يحكم قراراتها جعلها عاجزة عن اتخاذ مواقف حاسمة، فكل دولة تملك حق الفيتو العملي؛ ما يجعل أي وساطة رهينة لموافقة الأطراف المتنازعة.

لقد حاولت ماليزيا –بصفتها الوسيط الإقليمي– أن تلعب دورا متوازنا يضمن عدم امتداد النزاع إلى دول أخرى، إلا أن غياب الإجماع أدى إلى إضعاف مكانة آسيان كمؤسسة قادرة على فرض حلول مُلزمة. 

ومع انتقال رئاسة المنظمة إلى الفلبين هذا العام، يُنتظر اختبار جديد لقدرتها على تحويل "التهدئة المؤقتة" إلى تسوية مستدامة.

أخبار ذات علاقة

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب

سلام تحت الأضواء الأمريكية.. ترامب يرعى اتفاقا تاريخيا بين كمبوديا وتايلاند

تُظهر الأزمة أن آسيان، رغم تطورها الاقتصادي والمؤسسي، ما زالت أسيرة سياسات الدول الأعضاء الداخلية، وأن العمل الجماعي يظل ثانويا أمام الحسابات الوطنية. 

فبينما تُرفع شعارات "الهوية الإقليمية" و"السلام الدائم"، تظل النزاعات الحدودية العالقة –مثل تلك بين تايلاند وكمبوديا أو بين ماليزيا وإندونيسيا– تذكيرا بحدود فعالية المنظمة.

ويهدد استمرار هذا النزاع دون حل بتقويض نموذج آسيان في "التكامل الهادئ"، ويكشف أن القانون الدولي وحده لا يكفي دون إرادة سياسية مشتركة. فالخلاف على بضعة كيلومترات من الأراضي يتجاوز الخرائط إلى صراع على التاريخ والرمز، وعلى شرعية الدولة في مواجهة ذاكرة الاستعمار وموروثاته.

ويُسلّط فشل آسيان في احتواء النزاع الحدودي بين تايلاند وكمبوديا الضوء على محدودية أدوات العمل الإقليمي في معالجة القضايا السيادية الحساسة؛ فطالما ظل التاريخ يُستخدم كأداة تعبئة وطنية، ستبقى المعابد القديمة –مثل برياه فيهير وتا موين ثوم– ساحة لتجدد الصراع لا رموزًا للسلام الثقافي المشترك.

وربما يشكل النزاع الحالي إنذارا مبكرا للمنطقة بأسرها: أن الهوية الوطنية حين تتغلب على المنطق الإقليمي، يتحول الإرث الحضاري إلى خط تماس سياسي.

 وبينما تعجز آسيان عن فرض حلول دائمة، يبدو أن إرث المعاهدات الاستعمارية لا يزال يرسم حدود الحاضر بقدر ما رسم خرائط الماضي.

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة © 2025 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC