لم تعد الخروقات الجوية الروسية مجرد حوادث عابرة على أطراف شرق أوروبا، بل تحوّلت إلى مؤشر متكرر على تصاعد التوتر في منطقة البحر الأسود، فبعد أيام من اختراق 19 مسيّرة روسية الأجواء البولندية، وجدت رومانيا نفسها في مواجهة مباشرة مع طائرة مسيّرة روسية اخترقت مجالها الجوي.
ولم تكتفِ رومانيا بالاحتجاج الدبلوماسي واستدعاء السفير الروسي للتعبير عن استيائها الشديد، بل سارعت إلى إرسال طائرتين مقاتلتين من طراز "إف-16" لمراقبة المسيّرة، وقد حصل الطيارون على إذن بإسقاطها.
وأعلنت وزيرة الخارجية الرومانية، أوانا تويو، أن بلادها سترفع القضية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، مطالبةً بتطبيق صارم للعقوبات الدولية المفروضة على روسيا.
وتفتح هذه التطورات الباب أمام تساؤلات حول طبيعة هذه الخروقات: هل هي مجرد أخطاء تقنية متكررة؟ أم رسائل مدروسة من موسكو لاختبار قدرات الناتو واستفزاز خصومها في لحظة جيوسياسية حساسة؟.
قال الدكتور سمير أيوب، المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، إن غياب أي تعليق رسمي من موسكو أو بيان يؤكد مسؤوليتها عن المسيّرات التي اخترقت الأجواء الرومانية، يشير إلى احتمال وجود أطراف أخرى تحاول استغلال الموقف لتأجيج الصراع.
وأضاف في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز" أن هناك ثلاثة أهداف رئيسة وراء إطلاق تلك المسيّرات، مشيرًا إلى أن وزير خارجية بولندا نفسه وصفها بـ"الدمى"، مشككًا في أن تكون روسيا قد أطلقتها بهذه الطريقة، لأن ذلك قد يؤدي إلى صدام مباشر مع حلف الناتو.
ولفت أيوب إلى أن التصعيد العسكري الغربي على حدود بولندا وبيلاروسيا أدى إلى زيادة عدد قوات الناتو في المنطقة، إضافة إلى إرسال معدات وطائرات فرنسية بحجة "الدفاع عن الحلف".
وأكد أن هذا التصعيد لم يكن وليد اللحظة، بل معدّ له مسبقًا، وكانت الحشود العسكرية مهيأة حتى قبل حادثة المسيّرات، وكانت تنتظر فقط الذريعة المناسبة، والتي وُفِّرت الآن.
ورجّح أن تكون أجهزة الاستخبارات الأوكرانية، بالتعاون مع نظيراتها الغربية، وخاصة الألمانية والبريطانية، هي من يقف وراء هذه العمليات، لأن المستفيد الأول من التصعيد ومحاولة فرض عقوبات جديدة على روسيا هو نظام كييف وبعض العواصم الأوروبية.
وفي هذا السياق، انتقد أيوب تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي قال مؤخرًا إنه "سئم من الرئيس الأوكراني"، ثم أضاف أنه "سئم أيضًا من الرئيس الروسي"، متسائلًا: "لا أعلم ما الذي دفعه لقول ذلك عن الرئيس بوتين، رغم أن الأخير أعلن استعداده لوقف الحرب وإنهاء النزاع، بل وتبادل الأراضي، شريطة معالجة الأسباب الجذرية للصراع".
وحذر أيوب من أن هذه التطورات تشير إلى وجود نية لإنشاء منطقة حظر جوي في غرب أوكرانيا، تكون ملاذًا آمنًا لقيادات الجماعات الإرهابية ولكل من يرغب في محاربة روسيا، مؤكدًا أن موسكو لن تسمح بذلك، ولهذا تُفتعل الحوادث والاشتباكات مع دول الناتو.
من جهته، قال إبراهيم كابان، مدير شبكة الجيو-استراتيجي للدراسات، إن موسكو تسعى إلى توجيه رسائل واضحة للدول المتاخمة لأوكرانيا، وهي رسائل مباشرة ومركزة تهدف إلى ردع أي تحرك أوروبي محتمل.
وأشار في تصريحات لـ"إرم نيوز" إلى تصاعد المزاج العسكري داخل أوروبا، حيث تسعى بعض الدول الأوروبية إلى نشر قوات إضافية على الحدود الروسية، أو على الأقل على حدود أوكرانيا، وسط تحركات متسارعة في هذا الاتجاه.
وأضاف أن روسيا تسعى لإظهار قدرتها على التوغل في العمق الأوروبي الشرقي دون عوائق تُذكر، وأنها لا تزال قوة حاضرة بقوة في الميدان.
وأعرب كابان عن توقعه بأن يشهد الملف الأوروبي-الروسي تصعيدًا جديدًا خلال الفترة المقبلة، لا سيما في ظل التراجع الأمريكي الواضح تجاه دعم أوكرانيا.
وأوضح أن هناك قلقًا متزايدًا من انزلاق الأوضاع إلى مواجهة مباشرة، في ظل غياب أي حلول سياسية ملموسة على المدى القريب.
وختم بأن موسكو قد تستخدم هذا التصعيد كأداة ضغط لفرض شروطها في أي مفاوضات مقبلة، لكنه لم يستبعد أن يُستخدم هذا التصعيد لاحقًا كورقة تفاوضية تفضي إلى التهدئة، معتبرًا أن هذا السيناريو مرجح، ومطلوب لتجنب الانفجار الشامل.