كلما عادت فنزويلا إلى واجهة التصعيد الأمريكي، عاد السؤال القديم الجديد: هل يتحرّك البيت الأبيض وحده، أم أن القرار يُصاغ في الغرف الرمادية لوكالة الاستخبارات المركزية؟
من هذا المنطلق، يجزم خبراء ومراقبون للأزمة القائمة بين الولايات المتحدة وفنزويلا أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تشديد الخناق السياسي والاقتصادي على نظام نيكولاس مادورو، والتلويح بخيارات تتجاوز العقوبات، لا يمكن قراءته بوصفه اندفاعًا سياسيًا عابرًا، بل كحلقة في مسار أعمق تقوده أجهزة الاستخبارات الأمريكية، وعلى رأسها الـ"CIA"، التي تمتلك تاريخًا طويلًا في إدارة التغيير القسري للأنظمة في أمريكا اللاتينية.
وفي حالة فنزويلا، لا يبدو أن واشنطن تعيد اختراع العجلة، بل تستدعي دليلًا استخباراتيًا قديمًا، تم تحديث أدواته لا أكثر.
منذ وصول هوغو تشافيز إلى السلطة عام 1999، وضعت الـCIA فنزويلا في خانة "التهديد الاستراتيجي غير التقليدي". لم يكن الخطر عسكريًا، بل نموذجًا سياسيًا واقتصاديًا متمردًا يهدد النفوذ الأمريكي في "الحديقة الخلفية" للولايات المتحدة.
وثّقت تقارير صحفية أمريكية وغربية، بينها تقارير لـ"نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست"، أن الوكالة أدت دورًا غير مباشر في انقلاب نيسان/أبريل 2002 الفاشل ضد تشافيز، عبر قنوات تمويل لمنظمات مجتمع مدني وضباط معارضين، وتوفير غطاء سياسي للانقلابيين قبل انهيار المحاولة في 48 ساعة.
ومنذ ذلك التاريخ، تحول العمل الاستخباراتي من خيار صدامي مباشر إلى استراتيجية استنزاف طويلة الأمد، عبر اختراق النخب السياسية والعسكرية، ودعم قوى المعارضة، وجمع معلومات تفصيلية عن الانقسامات داخل الجيش، ومراقبة شبكات الدعم الكوبية والروسية والإيرانية. هذه البنية الاستخباراتية لم تُفكك، بل ورثها مادورو مثقلة بأزمات اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة.
على خلاف الصورة الشائعة عن توتر العلاقة بين ترامب ووكالات الاستخبارات، تكشف الملفات الخارجية ومنها فنزويلا عن تناغم عملي بين الطرفين، فترامب لا يحب التفاصيل، لكنه يحب "النتائج السريعة"، والـCIA لا تحب الأضواء، لكنها تتقن هندسة المسارات الطويلة.
وفي ملف فنزويلا، وفّرت الوكالة للرئيس الأمريكي تقديرات حول هشاشة الاقتصاد، وسيناريوهات تفكك الجيش، وخرائط الولاءات داخل النخبة الحاكمة، وأيضًا تقييمات حول فرص "الانشقاق الكبير".
وهنا تحديدًا، يُفهم لماذا فضّلت إدارة ترامب الجمع بين العقوبات الخانقة والدعم السياسي للمعارضة، وترك الباب مواربًا أمام "خيارات أخرى" دون الإعلان عنها.
لفهم ما يجري في فنزويلا اليوم، لا بد من العودة إلى السجل التاريخي للـCIA في أمريكا اللاتينية، وهو سجل لا يترك مجالًا للشك في طبيعة الدور. فخلال قرن تقريبًا، شاركت الوكالة، بشكل مباشر أو غير مباشر، في العديد من الأحداث المفصلية، بدءًا من غواتيمالا عام 1954.
وجرى إسقاط حكومة أربينز المنتخبة، مرورًا بتشيلي عام 1973، عندما مهّدت الـCIA لانقلاب بينوشيه على سلفادور أليندي، والبرازيل 1964 عبر دعم انقلاب عسكري أنهى التجربة الديمقراطية، ونيكاراغوا من خلال تمويل وتسليح "الكونترا" ضد الساندينيين، وأخيرًا في السلفادور وهندوراس عبر إدارة حروب قذرة بواسطة وكلاء محليين.
ومن يراقب هذا التاريخ من التدخلات للوكالة الأمريكية سيرَ أن الاسم الحركي كان دائمًا "حماية الديمقراطية"، لكن النتيجة غالبًا كانت أنظمة عسكرية، وفوضى، وانتهاكات واسعة.
واليوم، لا ترسل الـCIA دبابات، ولا تصنع انقلابات كلاسيكية، الأدوات تطورت إلى حروب اقتصادية، وضغط نفسي وإعلامي، وتفكيك الثقة بين الدولة والمجتمع، وتشجيع الانشقاقات الداخلية، وتضخيم الفشل وتحويله إلى كرة ثلج.
تُستخدم الأزمة المعيشية كرافعة سياسية في فنزويلا، فيما يجري التعويل على لحظة انهيار داخلي، لا على تدخل عسكري مباشر قد يرتد سلبًا على واشنطن.
وفقًا لتقارير صادرة عن مراكز دراسات أمريكية، لا ينفصل الاهتمام الاستخباراتي الأمريكي المتجدد بفنزويلا عن وجود روسيا والصين، والتقارب مع إيران، والنفط الفنزويلي، وأيضًا الخشية من نموذج "دولة فاشلة معادية" قرب الحدود الأمريكية.
ومن هذا المنظور، ترى الـCIA أن ترك مادورو ليس خيارًا، لكن إسقاطه بالقوة المباشرة ليس ذكيًا أيضًا.
وما يُخطط لفنزويلا ليس سيناريو غزو، بل تفكيك بطيء للنظام من الداخل، وفق مدرسة استخباراتية مجرّبة في القارة اللاتينية. وإذا كان ترامب يقف في الواجهة، فإن العقل الذي يخطط ويجمع الخيوط ويراقب لحظة الانكسار هو وكالة الاستخبارات المركزية. وفي أمريكا اللاتينية، عندما تتحرك الـCIA، نادرًا ما يكون ذلك بلا نهاية كبرى.