شكّلت الولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، العمود الفقري للردع النووي في أوروبا عبر "المظلة النووية"، التي حافظت على التوازن الاستراتيجي ومنعت الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع الاتحاد السوفيتي، ثم روسيا لاحقاً.
مع التحولات الجيوسياسية وتصاعد النزعة الانعزالية في واشنطن تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب، ظهرت أسئلة جديدة حول قدرة أوروبا على البقاء آمنة دون المظلة الأمريكية، خصوصاً بعد تعليق الدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا، ما جعل القارة تعيد التفكير في استراتيجيات الدفاع والردع النووي التقليدي.
وأثارت التطورات الأخيرة بين واشنطن وكييف مخاوف أوروبية، إذ دأب ترامب على التشكيك في جدوى التحالفات العسكرية، وفي مقدمتها الناتو، ولوّح بسحب القوات الأمريكية أو تقليص مشاركتها.
هذا الاحتمال يزيد من الانكشاف الأوروبي أمام روسيا، خصوصاً مع الفارق الكبير بين الترسانات النووية، حيث تمتلك روسيا والولايات المتحدة أكثر من 5 آلاف رأس نووي لكل منهما، بينما فرنسا وبريطانيا تمتلكان معاً نحو 515 رأساً نووياً فقط، معظمها على أراضيهما، بالإضافة إلى المظلة الأمريكية التي كانت تمنح حماية إضافية عبر القنابل الأمريكية المنتشرة في خمس دول أوروبية، وإزالتها ستزيد الانكشاف بشكل حاد.
استجابة لهذا الانكشاف، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلايين خطة بقيمة 800 مليار يورو لتعزيز القدرات الدفاعية للدول الأعضاء ودعم أوكرانيا، وتطوير الصناعة الدفاعية، ورفع الجاهزية العسكرية المشتركة للتعامل مع السيناريوهات الأكثر خطورة.
ألمانيا، من جهتها، ألغت قيوداً دستورية على الإنفاق العسكري، ما يعكس مستوى القلق لدى النخب السياسية والجمهور، الذي يؤيد بأغلبية كبيرة تعزيز الدفاع المشترك وإنتاج الأسلحة محلياً.
لكن رغم ذلك يرى البعض أن المظلة الأمريكية كانت أكثر أسطورة سياسية منها التزام عملي. فمنذ الستينيات، اعتمدت واشنطن استراتيجية "الرد المرن"، بحيث كانت تستخدم الأسلحة النووية داخل أوروبا نفسها لتجنب ضرب الأراضي الأمريكية، ما جعل الأوروبيين أقل طمأنينة. الباحثة إيمانويل ماتر تشير إلى أن أي تراجع أمريكي له أثر نفسي كبير على الثقة الأوروبية ويقلل من إدراك موسكو لمصداقية الردع الأمريكي.
فرنسا تمتلك ترسانة مستقلة مع 290 رأساً نووياً وتستند عقيدتها على الاستقلالية والسيادة، بينما بريطانيا تمتلك أربع غواصات نووية بحوالي 225 رأساً نووياً وتعتمد جزئياً على التكنولوجيا الأمريكية.
كلاهما لا يشارك القرار النووي بشكل كامل مع حلفاء الناتو. بعض القادة الأوروبيين يفكرون في مظلة فرنسية-بريطانية لتعويض المظلة الأمريكية، لكن القرار النهائي يبقى سيادياً بالكامل، ما يجعل فكرة قوة نووية أوروبية موحدة صعبة التحقيق.
مع تطور الصواريخ الفائقة السرعة والطائرات المسيّرة والقدرات الدقيقة، أصبح الردع التقليدي أكثر واقعية من النووي في مواجهة التهديدات الروسية. التركيز ينصب على تعزيز القدرات العسكرية التقليدية وإظهار الجاهزية الفعلية لمنع أي تصعيد محتمل.
ستعزز خطة إعادة التسليح الأوروبية الصناعات الدفاعية وتدعم تطوير التكنولوجيا المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي والبيوتكنولوجيا، ما يسرع إعادة الصناعات الحيوية للقارة.
لكن التمويل الكبير عبر الدين العام، واحتمالية تأثير ذلك على السياسات الاجتماعية والتحولات الرقمية والبيئية، يشكل تحديات واضحة، فضلاً عن محدودية قدرة أوروبا على تعويض الولايات المتحدة في تزويد أوكرانيا بالأسلحة.
لعقود، اعتبرت أوروبا نفسها قوة مدنية تعتمد على الاقتصاد والدبلوماسية والقوة الناعمة، مع حماية أمريكية. اليوم، مع تقلص الاعتماد على واشنطن، قد تضطر أوروبا للتحول إلى قوة صلبة قادرة على الدفاع عن نفسها واستعادة الردع، أو مواجهة التحديات الجديدة دون حماية خارجية.
ومع تراجع المظلة الأمريكية، تواجه أوروبا مفترق طرق استراتيجيا لم تشهده منذ ثمانين عاماً. تعزيز الردع التقليدي، تطوير الصناعات الدفاعية، والحفاظ على الاستقلالية الاستراتيجية أصبح ضرورة حتمية لضمان أمن القارة واستقرارها أمام التهديدات الروسية المتصاعدة.