تشهد أوروبا موجة غير مسبوقة من زيادة الإنفاق العسكري، مدفوعة بالتوترات الجيوسياسية، ولا سيما الحرب الروسية الأوكرانية، فيما يروّج قادتها، بمن فيهم رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، ورئيسة المفوضية، أورسولا فون دير لاين، لفكرة أن هذا الإنفاق قد يكون محركاً للنمو الاقتصادي.
وفي بريطانيا، زار وزير القوات المسلحة، لوك بولارد، مصنع شركة "إم بي دي إيه" في بولتون، حيث أُعلن عن عقد بقيمة 118 مليون جنيه إسترليني لتصنيع منصات إطلاق صواريخ، حيث يرى بولارد أن الدفاع يُمثل محركاً للنمو، مشيراً إلى وجود صناعات دفاعية في جميع الدوائر البرلمانية البريطانية.
ولا يقتصر هذا التوجه على بريطانيا، ففي ألمانيا تخطط شركة "راينميتال" لتوظيف 8000 عامل جديد خلال عامين، بينما تنضم إيطاليا إلى برامج الاتحاد الأوروبي لتعزيز الإنفاق العسكري بما يعود بالنفع على القطاع المدني، فيما يُسلط هذا التوجه الضوء على ما يُسمى "عائد الدفاع"، حيث يُنظر إلى الإنفاق العسكري كاستثمار يُحقق فرص عمل ويُعزز القدرات الصناعية.
وفي فق تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز"، يحذر خبراء الاقتصاد من أن الفوائد الاقتصادية قد تكون محدودة إذا لم يتم توجيه الإنفاق بشكل صحيح، إذ يشير إيثان إلزيتسكي، أستاذ الاقتصاد في كلية لندن، إلى أن شراء معدات عسكرية تقليدية أو مستوردة، مثل الطائرات المقاتلة الأمريكية، لا يُحفز الابتكار ولا يُحقق نمواً كبيراً.
وبدلاً من ذلك، يُشدد إلزيتسكي على أهمية استثمار الأموال في البحث والتطوير لتحقيق فوائد طويلة الأجل تنتقل إلى القطاع المدني. وتاريخيًّا، أثبتت الأبحاث الدفاعية قدرتها على تحفيز الابتكار، فتقنيات مثل الإنترنت، نظام تحديد المواقع (GPS)، والكاميرات الرقمية نشأت من أبحاث عسكرية.
يرى كينيث روجوف، أستاذ الاقتصاد في هارفارد، أن التقدم التكنولوجي الناتج عن الاستثمارات في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات هو المحرك الحقيقي للنمو، وليس شراء المعدات التقليدية.
إلا أنه يُحذر من أن إنفاق الأموال على الدبابات بدلاً من المدارس قد يُضر بالاقتصاد على المدى الطويل، فمن من الناحية الكمية، تُشير تقديرات المفوضية الأوروبية إلى أن زيادة الإنفاق الدفاعي قد تُؤدي إلى نمو طفيف في الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي، يتراوح بين 0.3% و0.6% بحلول 2028.
لكن هذا النمو يُعتبر ضئيلاً مقارنة بالعوائد المحتملة من الإنفاق على التعليم أو البنية التحتية، حيث يُحقق كل دولار يُنفق على الدفاع زيادة بنحو 50 سنتاً في الناتج المحلي، بينما تكون عوائد التعليم أعلى بكثير.
وتُواجه أوروبا تحديات تمويل هذا الإنفاق، إذ يرى تقرير معهد كيل أن الاقتراض العام هو الطريقة المثلى لتمويل الزيادات العسكرية، وليس زيادة الضرائب، التي قد تُعيق النمو، فألمانيا، التي خففت قيودها على الاقتراض، باتت قادرة على تخصيص 5% من ناتجها الاقتصادي للدفاع والبنية التحتية.
بينما دول مثل فرنسا وإيطاليا، التي تعاني من ديون مرتفعة، تواجه صعوبات في تحمل تكاليف الاقتراض الإضافي، فعلى صعيد التوظيف، يُعتبر الإنفاق الدفاعي مصدرًا لـ"الوظائف الجيدة".
وعلى سبيل المثال، يوفر مصنع "راينميتال" في ألمانيا 500 وظيفة جديدة، بينما تخطط "إم بي دي إيه" لتوظيف 2600 عامل بحلول نهاية العام. في بولتون، تتوقع الشركة زيادة عدد العاملين بـ700 خلال خمس سنوات. وهذه الوظائف تُعزز الاقتصاد المحلي، لكنها لا تكفي وحدها لتحقيق نمو مستدام.
ويرى تقرير "نيويورك تايمز"، أن نجاح الإنفاق الدفاعي في إنعاش الاقتصاد الأوروبي، يعتمد على توجيه الأموال نحو البحث والتطوير والابتكار، بدلاً من تعزيز المخزونات التقليدية، كما يتطلب استراتيجيات تمويل ذكية، مثل الاقتراض بدلاً من الضرائب، لتجنب إثقال كاهل الاقتصادات المتعثرة. بينما تُوفر هذه السياسات فرصًا للنمو وخلق الوظائف، فإنها تتطلب توازناً دقيقاً لضمان عدم التضحية بالاستثمارات الاجتماعية، مثل التعليم والبنية التحتية، التي تُعد أساس النمو الاقتصادي طويل الأجل.