لم تعد الحرب الروسية الأوكرانية مجرد مواجهة عسكرية مفتوحة، بل تحولت مع اقترابها من عامها الرابع إلى صراع مفاهيم متناقضة حول معنى السلام ذاته، فبينما تتحدث موسكو عن تسوية تراعي ما تسميه "الوقائع على الأرض"، تتمسك كييف برؤية ترى أن أي اتفاق لا يعيد السيادة كاملة هو إعادة إنتاج للهزيمة.
وبين هذين الخيارين تتحرك واشنطن بخيار ثالث، يسعى إلى إنهاء الحرب سريعًا، حتى لو جاء ذلك على حساب إعادة رسم خرائط النفوذ في شرق أوروبا.
ومرارًا، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استعداد بلاده للدخول في مفاوضات سلام دون شروط مسبقة، لكنه ربط ذلك بضرورة احترام "الواقع الميداني"، وهو ما يحمل في طياته رفضًا قاطعًا لأي نقاش حول مستقبل القرم ودونباس والمناطق التي تصفها موسكو بـ"نوفوروسيا".
وتذهب موسكو أبعد من ذلك، إذ حذر بوتين من أن رفض كييف لهذه المقاربة قد يدفع روسيا إلى توسيع مكاسبها العسكرية، معتبرًا أن الفرصة المتاحة الآن قد لا تتكرر.
كما شدد الكرملين على رفض أي تعديلات أوروبية أو أوكرانية على خطط السلام المطروحة، في ظل انعدام الثقة في الضمانات الغربية، خاصة بعد تجربة توسع حلف الناتو شرقًا.
في المقابل، يتمسك الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بخط أحمر واضح، لا اعتراف بسيطرة روسيا على أي جزء من الأراضي الأوكرانية، وعلى رأسها دونباس.
ورغم إعلانه قرب الانتهاء من صياغة مقترحات للتوصل إلى اتفاق، فإن هذه المقترحات تقوم على شرطين أساسيين، ضمانات أمنية قوية وعدم شرعنة الاحتلال.
وأكد زيلينسكي أن أي قرار يتعلق بالأراضي لا يمكن أن يُتخذ إلا عبر البرلمان الأوكراني، مشددًا على أن السلام الحقيقي من وجهة نظر كييف لا يتحقق إلا باستعادة الأراضي المحتلة.
وحذر من أن أي اتفاق لا يتضمن ضمانات شبيهة بالمادة الخامسة من ميثاق الناتو سيجعل أوكرانيا عرضة لجولة جديدة من الحرب.
وفي هذا السياق، تتبى الإدارة الأمريكية بقيادة ترامب مقاربة مختلفة، إذ عبر الرئيس الأمريكي صراحة عن قناعته بأن روسيا "تتمتع بالأفضلية"، داعيًا زيلينسكي إلى تقبّل هذا الواقع.
الخطة الأمريكية تتضمن نقاطًا شديدة الحساسية، أبرزها القبول ببقاء روسيا في مناطق مثل دونيتسك وأجزاء من خيرسون وزابوريجيا، مقابل ترتيبات أمنية لأوكرانيا، تشمل ضمانات توصف بأنها قريبة من المادة الخامسة، إضافة إلى مقترح إنشاء منطقة اقتصادية حرة في دونيتسك تُمنع القوات الروسية من دخولها.
لكن هذه المقاربة تُثير مخاوف أوكرانية متزايدة من أن واشنطن قد تمارس ضغوطًا لتوقيع اتفاق يميل لصالح موسكو، تحت شعار الواقعية السياسية والرغبة في إنهاء الحرب قبل نهاية العام.
وفي هذا الإطار، قال رئيس المركز الأوكراني للتواصل والحوار الدكتور عماد أبو الرب، إن هناك حقيقة واضحة تتمثل في بروز خطوات جديدة من خلال عقد جلسات ومشاورات بين الأطراف المعنية، سواء على المسار الأمريكي–الروسي أو الأمريكي الأوكراني.
وأشار أبو الرب لـ"إرم نيوز" إلى أن هذه التحركات، رغم أهميتها، لا تُقابل بتفاؤل كبير من الجانب الأوكراني، في ضوء التصريحات الصادرة عن مساعد الرئيس الروسي، الذي أكد أن روسيا في المرحلة الحالية لا ترى ضرورة لعقد لقاء أمريكي أوكراني.
وتابع: "في المقابل أبدت روسيا ترحيبًا بالجلوس مع الرئيس الفرنسي، استنادًا إلى تصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي شدد على أن من الأفضل فتح باب النقاش والحوار بين أوروبا وروسيا".
وأضاف أبو الرب، أن هذا الطرح يعكس توجهًا أوروبيًا يسعى إلى الإبقاء على قنوات التواصل مفتوحة، ولو بحدودها الدنيا، في ظل تعقيدات المشهد السياسي الراهن.
وأوضح أن الجلسات المطروحة اليوم، سواء في ميامي أو في أماكن أخرى، تحمل في طياتها مؤشرات عدة، في مقدمتها ضرورة أن يكون الموقف الأمريكي واضح المعالم، لا سيما فيما يتعلق بالخطوط العريضة لآلية إدارة الوساطة، وطبيعة التوازن الذي ستسعى واشنطن إلى تحقيقه في تواصلها مع كل من الجانب الأوكراني والروسي على حد سواء.
ولفت أبو الرب إلى وجود نوع من المرونة الجزئية، يمكن اعتبارها مؤشرًا واضحًا على أن أوروبا بدأت تدخل دائرة تفاؤل غير مباشر، سواء عبر الجلسات التي تعقدها مع الجانب الأمريكي أو من خلال التصريحات المتداولة حاليًا في أوروبا، والتي تفتح المجال لاحتمال بدء حوار مستقبلي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وأكد أنه، ووفقًا لأسوأ الاحتمالات، لا يُتوقع تحقيق نتائج مأمولة في المدى القريب، باستثناء استمرار الزيارات الدبلوماسية واللقاءات السياسية، إلى حين الوصول إلى مقاربة مشتركة تحظى بقبول جميع الأطراف المعنية.
في السياق ذاته، قال المحلل السياسي والخبير في الشؤون الأوروبية كامل حواش، إن هناك فرقًا جوهريًا بين ما يُعرف بـ"السلام العادل" و"السلام الممكن"، وهو ما يشكّل جوهر الخلاف القائم بين أطراف النزاع.
وأكد لـ"إرم نيوز" أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يؤكد أن البرلمان الأوكراني هو الجهة المخوّلة دستوريًا باتخاذ أي قرار يتعلق بالتنازل عن الأراضي، مشددًا في الوقت ذاته على أن السلام الحقيقي، من وجهة نظر كييف، لا يمكن أن يتحقق إلا باستعادة أوكرانيا لجميع الأراضي التي احتلتها روسيا منذ اندلاع الحرب.
وأضاف الخبير في الشؤون الأوروبية، أن هذا الطرح لا يُعد مطروحًا على الطاولة بالنسبة لروسيا، ما يخلق فجوة عميقة بين الموقفين، وأن هذه الفجوة لا تقتصر على كييف وموسكو فحسب، بل تمتد أيضًا إلى داخل الاتحاد الأوروبي، بين دول تؤيد الموقف الأوكراني بالكامل وأطراف أخرى تتبنى مقاربات أكثر براغماتية.
وأضاف المحلل السياسي، أن الولايات المتحدة وتحديدًا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تتبنى رؤية تقوم على تفهّم واقع أن روسيا لن تنسحب من عدد من المناطق التي سيطرت عليها في شرق أوكرانيا.
واعتبر أن هذا الطرح يعكس التباين الواضح بين مفهوم "السلام العادل" الذي تطالب به أوكرانيا، و"السلام الممكن" الذي تراه بعض الأطراف الدولية أكثر واقعية.