الكرملين: مشاركة الأوروبيين في مفاوضات أوكرانيا "لا تبشّر بالخير"
مع اتساع الجدل في إيران عقب انتشار صور اجتماع ممثلة طهران في "منظمة التقييس الدولية" مع نظيرها الإسرائيلي في كيغالي، تبدو القضية أبعد من مجرد "خطأ بروتوكولي" في مؤتمر فني.
فهي وفقًا لمراقبين، تكشف طبقة أعمق من التناقض في سلوك السلطات الإيرانية، بين خطاب علني يتبنى "محور المقاومة" ويجرّم أي تماس مع إسرائيل، وبين سلوك عملي يوظف القنوات الخلفية والوسطاء لتمرير رسائل انفتاح مدروسة عندما يشتد الخناق.
شكلت الصور التي نشرتها مواقع وشبكات اجتماعية لمسؤولة في هيئة المعايير الإيرانية، فرحناز غلّاسي، وهي تجلس على الطاولة نفسها مع رئيس مؤسسة المعايير الإسرائيلية غيلاد غلوب خلال اجتماع ISO في كيغالي، صدمةً داخل الأوساط المحافظة، إلى درجة أن وكالة "فارس" المقربة من الحرس الثوري حذرت من أن مثل هذا "الاحتكاك" قد يرقى إلى مخالفة قانونية وفق القوانين التي تجرّم أي تواصل مع مؤسسات إسرائيلية، وتصل عقوباتها إلى السجن أو العزل من الوظيفة العامة.
في المقابل، احتفت وسائل إعلام إيرانية رسمية بالاجتماع نفسه من زاوية أخرى، متحدثة عن "مواءمة المعايير" و"تعميق التعاون" بين هيئة المعايير الإيرانية ورواندا، من دون أي إشارة إلى وجود وفد إسرائيلي في القاعة ذاتها، ما يؤشر إلى محاولة احتواء الفضيحة داخليًا، والاستفادة في الوقت ذاته من مظلة المنظمات الدولية، حيث يجلس "الأعداء" على الطاولة نفسها بحكم الأمر الواقع.
لكن دعوة النائب المحافظ مصطفى مير سليم إلى فتح تحقيق، وتأكيده أن ما جرى "إن صحّ، فهو انحراف عن مبادئ الثورة" تعكس وفقًا لمراقبين، حرج المنظومة؛ فهي من جهة سنّت قوانين تجعل أي تماس مع الإسرائيليين "كسرًا للخطوط الحمراء"، ومن جهة أخرى تجد نفسها مضطرة، عبر هيئاتها الفنية والدبلوماسية، للجلوس في غرف واحدة مع ممثلي تل أبيب حين تكون مصالحها التقنية والاقتصادية على المحك.
وفقًا لخبراء في الشؤون الإيرانية، فإن هذا التناقض لا يقتصر على ملف المعايير، إذ إن طهران، وخلف الخطاب المتشدد الذي يرفع شعار "محو إسرائيل"، تتحرك منذ سنوات عبر شبكة كثيفة من الوسطاء والمنتديات الدولية لإدارة اشتباكها مع تل أبيب وواشنطن في آن واحد.
تقارير عدة وثقت لجوء إيران إلى دول وسيطة كمنصات للرسائل السرية بين طهران والعواصم الغربية؛ من مفاوضات ما قبل الاتفاق النووي الأول، وصولًا إلى جولات حديثة من الاتصالات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة، جرى الإعداد لها عبر تبادل رسائل سرية وترتيبات متفق عليها.
وتحضر موسكو كلاعب رئيس في هندسة قنوات الاتصال، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عرض صراحة التوسط بين إيران وإسرائيل، مؤكدًا أنه قدم مقترحات للطرفين ولواشنطن حول "صفقة" توازن بين الهواجس الأمنية الإسرائيلية وطموحات طهران النووية.
يقول خبراء إن مجرد قبول إيران بمثل هذا المسار، والحديث عن "أفكار روسية" قيد الدراسة، يعني عمليًا الاعتراف بوجود مساحة تفاوض، وإن جرى تغليفها بخطاب "الصمود والمقاومة".
في الوقت ذاته، يحرص مقربون من المرشد، مثل كمال خرازي، على إرسال إشارات مدروسة مفادها أن إيران "لم تغلق كل الأبواب" أمام الدبلوماسية، وأنها مستعدة لمحادثات غير مباشرة مع الولايات المتحدة "لتقييم النوايا واتخاذ القرار المناسب"، في خطاب يُقرأ في الغرب على أنه استعداد لتنازلات مشروطة، وفي الداخل على أنه هامش مناورة لإنقاذ النظام من مزيد من العزلة والعقوبات.
هذه الرسائل المتعددة الاتجاهات تجعل من لقاء رواندا حلقة صغيرة في سلسلة أطول، فالنظام يرفض أي شكل من أشكال التطبيع العلني مع إسرائيل، لكنه في لحظات الأزمات الوجودية لا يتردد في استخدام المنابر الدولية والقنوات الخلفية لامتحان إمكانات التهدئة أو حتى التفاهمات الجزئية، ما دام ذلك لا يُترجم إلى "صورة مصافحة" يمكن أن تُستخدم ضده داخليًا.
التساؤل اليوم داخل إيران، يدور حول ما إذا كانت هذه الازدواجية تعبيرًا عن صراع تيارات حقيقي داخل النظام، أم جزءًا من تكتيك مركب يوزع الأدوار بين "صقور" يرفعون سقف الخطاب و"حمائم" يختبرون مسارات الانفتاح.
تقارير غربية تحدثت خلال الأشهر الماضية عن تعمق الانقسامات بين معسكر متشدد يدور حول المرشد ومعسكر أكثر براغماتية يضم شخصيات من تيار روحاني وإصلاحيين سابقين، يرى أن استمرار القطيعة مع واشنطن وتل أبيب يهدد بجرّ البلاد إلى مواجهة مفتوحة لا طاقة لها بها، ويدفع نحو البحث عن "صفقة كبرى" تحفظ النظام حتى لو اضطر للتنازل عن أجزاء من نفوذه الإقليمي.
في هذا السياق، يمكن قراءة سلوك مؤسسات مثل هيئة المعايير أو الخارجية أو المجلس الأعلى للأمن القومي؛ أجهزة ترسل إشارات انفتاح محسوبة، من دون أن تذهب إلى كسر معلَن للخطاب العقائدي، وعندما تنكشف إحدى هذه الإشارات، كما حدث في كيغالي، يجري تحميل المسؤولية لشخصية بيروقراطية يتم التضحية بها إذا لزم الأمر، فيما تبقى "الاستراتيجية" على حالها؛ مقاومة في العلن، ومساومات في الكواليس.
لقاء رواندا، بكل رمزيته، يعيد تظهير هذا التناقض؛ نظام يحرض حلفاءه على رفض أي جلوس مع "العدو الصهيوني"، لكنه لا يتردد في إجازة حضور مسؤوليه مؤتمرات تعرف سلفًا أن وفودًا إسرائيلية ستكون فيها، ويستخدم المنابر نفسها لتمرير رسائل إلى واشنطن وتل أبيب عبر الوسطاء.
بالنسبة لدول المنطقة التي دفعت أثمانًا باهظة في حروب "محور المقاومة"، يفتح هذا المشهد باب التساؤل: إلى أي حدّ يمكن الوثوق بخطاب طهران حين تتحدث عن "ثوابت لا تتغير"، بينما تظهر الوقائع أنها مستعدة، كلما ضاق الخناق، لمدّ خيوط تواصل مع من تصفهم في العلن بـ"العدو الوجودي"؟