في سباق يقترب من حافة الجنون النووي، عادت موسكو لتشعل التوازن العالمي مجددًا بصاروخها الجديد "بوريفستنيك"، الذي وصفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه "لا مثيل له في العالم".
ويضع ذلك العالم أمام معادلة ردع جديدة تتجاوز حدود الحرب الروسية الأوكرانية نحو اختبار مفتوح لقواعد الردع النووي ذاتها.
وبعد أسبوع من الكشف عن هذا الصاروخ، لا يزال صدى الإعلان يتردد في العواصم الغربية التي قرأت الرسالة الروسية باعتبارها تهديدًا صريحًا للغرب، وتحذيرًا بأن مرحلة "اللعب بالنار" قد بدأت فعلاً.
وأكد بوتين أن صاروخ بوريفستنيك يجسّد حداثة غير مسبوقة في منظومة الردع الروسية، مشيرًا إلى أن المفاعل النووي المركّب فيه يبدأ العمل في دقائق وثوان فقط، مقارنة بساعات وأيام في المفاعلات التقليدية".
وقال إن القوات المسلحة الروسية في أعلى درجات الجاهزية، وربما على مستوى أعلى من جميع الدول النووية، في رسالة واضحة إلى أمريكا وحلفائها.
أما رئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف فكشف أن الصاروخ قطع 14 ألف كيلومتر خلال رحلة استمرت 15 ساعة دون انقطاع، ما يعني أن مداه نظريًا غير محدود، وأنه قادر على التحليق لمدد طويلة لتجاوز أنظمة الدفاع الجوي التقليدية.
وذهب المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف أبعد من ذلك، معتبرًا أن تكنولوجيا بوريفستنيك تحمل أهمية تطبيقية مستقبلية للاقتصاد الروسي، مشددًا في الوقت نفسه على أن ضمان الأمن بات قضية حيوية في ظل تصاعد النبرة العسكرية الغربية خاصة الأوروبية.
ووصف دميتري مدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، نظيره البحري بوسيدون بأنه سلاح يوم القيامة بالمعنى الكامل، في إشارة إلى المنظومة النووية الروسية التي تستعرض قوتها الشاملة.
الرد من واشنطن جاء سريعًا وحادًا، إذ قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إن اختبار بوريفستنيك غير مناسب، داعيًا بوتين إلى التركيز على إنهاء الحرب بدلًا من اختبار الصواريخ.
وأضاف أن موسكو تعلم أن لدى الولايات المتحدة غواصة نووية منتشرة مباشرة قبالة سواحلها، في تذكيرٍ بموازين القوة النووية القديمة.
وفي أوروبا، رأت وسائل إعلام غربية مثل "أسوشيتد برس" و"بلومبيرغ" و"رويترز" أن الإعلان الروسي يشكل "رسالة ردع صريحة إلى الناتو" لوقف تزويد أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى.
وبين هذا وذاك، يبدو أن صاروخ بوريفستنيك لم يكن مجرد إعلان عسكري، بل إشارة إلى أن موسكو قررت فتح فصل جديد من الصراع مع الغرب تحت مظلة الردع النووي.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة موسكو، الدكتور نزار بوش، قال إن تهديدات الغرب خاصة أمريكا بتزويد أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى، وطلب بعض الدول تزويد كييف بصواريخ توماهوك لضرب العمق الروسي، أرسلت رسالة إلى موسكو مفادها بأن هذا الطلب قد يؤجل، لكنه لا يزال احتمالًا قائمًا، وقد يغامر بعض الفاعلين بإطلاق صواريخ من نوع توماهوك لضرب أهداف داخل العمق الروسي.
وذكر في تصريحات لـ"إرم نيوز" أن روسيا رأت لزامًا عليها أن تبعث رسائل تحذيرية واضحة، مفادها: إذا ضُربت منشأة أو عمق روسي بصواريخ، فإنها مستعدة للرد بأسلحة جديدة فائقة الدقة، يصعب على أنظمة الدفاع الجوي، بما في ذلك باتريوت، اعتراضها.
وأشار إلى أن بعض هذه الأسلحة جُرِّب بالفعل، مثل صاروخ "أورشنيك" الذي استهدف منشآت عسكرية كبيرة في أوكرانيا ودمّرها، مؤكدًا أن التسليح الروسي لم يتوقف عند هذا الحد.
وقال بوش إن الرئيس الروسي أعلن كذلك عن صاروخ نووي جديد باسم "بوريفستنيك"، يعمل بالطاقة النووية ويتميز بمدى طويل بفضل وجود مفاعل صغير، ما قد يسمح له بالبقاء في الجو لأيام، لأن "الاحتراق النووي أطول بكثير من محركات الوقود التقليدية".
وتابع في تصريحاته قائلا: "هذا الصاروخ يمكن أن يبقى في الجو لفترة ثم يتلقى أوامر لضرب أهداف بعيدة".
ويقول إن رسالته موجهة إلى أمريكا وإلى قادة الحلفاء في بريطانيا وألمانيا وفرنسا الذين يتحدثون عن استنزاف روسيا وضرب اقتصادها واستهداف عمقها بصواريخ جديدة.
وأشار إلى صاروخ "أفانغارد" الذي ظهر خلال التدريبات العسكرية الروسية - البيلاروسية المشتركة، واصفًا إياه بأنه يفوق سرعة الصوت مرات عدة ويستطيع الوصول إلى أي نقطة في العالم.
ولفت إلى أن صواريخ أخرى أُطلقت من قواعد برية داخل روسيا، وأن هذه المنظومة مجتمعة إلى جانب "بوريفستنيك" تمثل رسالة تحذيرية قوية للغرب "بضرورة التوقف عن اللعب بالنار، وإلا فستكون العواقب خطيرة".
وأشار إلى أن روسيا تعلن استعدادها للسلام، لكنها تُبقي خيار التصعيد مفتوحًا، مؤكدًا أن السلام لا يجب أن يكون على حساب أمن دولة دون أخرى، وأن أمن أوروبا لا ينفصل عن أمن روسيا، محذرًا من أن أي تقزيم لمفهوم السلام قد يؤدي إلى تصعيد مستمر من الجانب الروسي.
أما إبراهيم كابان، مدير شبكة الجيوستراتيجي للدراسات، فرأى أن الاستعراضات العسكرية الروسية والأوكرانية تحمل "أبعادًا تفاوضية واضحة"، إذ تسعى كل من موسكو وكييف إلى تعزيز حضورها الميداني وفرض شروطها في أي مفاوضات مقبلة.
وأكد كابان في تصريح لـ"إرم نيوز" أن الحديث عن تزويد أوكرانيا بصواريخ "توماهوك" الأمريكية قابله من الجانب الروسي الكشف عن صاروخ "بوريفستنيك" النووي الجديد، وهو صاروخ عابر للقارات غير محدود المدى، في مشهد يعكس تصاعد سباق استعراض القوة بين الطرفين.
وأضاف أن أوكرانيا تحاول تخويف روسيا عبر الحصول على أسلحة أمريكية ثقيلة، بينما ترد موسكو بإظهار قدراتها الصاروخية الاستراتيجية المتقدمة لتأكيد تفوقها العسكري.
وأشار كابان إلى أن هناك مشاريع ومقترحات مطروحة على كل من روسيا وأوكرانيا، ويبدو أن موسكو ما زالت تطمح إلى السيطرة على أجزاء من الأراضي الأوكرانية.
واعتبر أن الكرة لا تزال في ملعب أوكرانيا، التي تعمل على ممارسة مزيد من الضغوط على روسيا.
وفي ختام تصريحاته أشار كابان إلى أن ما نشهده حاليًا هو فصل جديد من استعراض العضلات الروسية الأوكرانية على الأراضي الأوكرانية، حيث يسعى كل طرف إلى إرسال رسالة واضحة إلى الآخر بأنه مستمر في المعركة، سواء عبر الهجوم الروسي أو الدفاع الأوكراني.