logo
العالم

لماذا قد تتحول "فنلدة أوكرانيا" إلى استسلام استراتيجي لأوروبا؟

مدافع فنلندي بالقرب من الجبهة خلال حرب الشتاء الفنلندية ا...المصدر: فورين بوليسي

محاولات "فنلدة" أوكرانيا ستمنح روسيا فرصة لتحويل الحرب من ساحة القتال إلى الداخل الأوكراني عبر أدوات الهيمنة السياسية والاقتصادية؛ ما يجعلها تهديدًا طويل الأمد لأمن أوروبا بأكملها.

مع تصاعد الدعوات الغربية للبحث عن تسوية سياسية للحرب الروسية–الأوكرانية، عاد إلى الواجهة مثال "فنلدة" أوكرانيا، في إشارة إلى تجربة فنلندا بعد هدنة موسكو عام 1944 التي أنهت حربها مع الاتحاد السوفيتي مقابل التنازل عن أراضٍ واسعة. 

أخبار ذات علاقة

https://youtu.be/IA9GrlOenKk

قبة من تركيا إلى فنلندا.. هل تحول مشروع الدفاع الأوروبي إلى رهينة بيد تل أبيب

 غير أن استدعاء هذا النموذج إلى سياق الحرب الأوكرانية لا يبدو مجرد مقاربة تاريخية، بل أقرب إلى وصفة استسلام استراتيجي يهدد أمن أوروبا بأكملها.

ففي ذلك الوقت، بحسب "فورين بوليسي"، قبلت فنلندا بالتخلي عن 12% من أراضيها مقابل السلام، واستطاعت الحفاظ على استقلالها وهويتها، لكن أوكرانيا اليوم ليست فنلندا الأربعينيات؛ فهي تحتل موقعًا مركزيًا في المشروع الإمبراطوري الروسي، وتشكّل بالنسبة لموسكو قلبًا جيوسياسيًا لا يمكن التخلي عنه، وإذا كانت هلسنكي آنذاك بعيدة عن صميم الصراع الدولي، فإن كييف اليوم هي محور الحرب الروسية ومحط أنظار الغرب.

أخبار ذات علاقة

صواريخ "إيه آي إم – 120 دي -3"

واشنطن توافق على بيع صواريخ متقدمة لفنلندا بمليار دولار

ويرى الخبراء أن المقارنة بين الحالتين تُظهر الفارق الجوهري؛ فبينما كان الاتحاد السوفيتي يسعى لإنهاء الحرب في 1944، فإن الكرملين اليوم يسعى إلى توسيعها، كما أن موسكو لم تُخفِ طموحاتها في السيطرة على مزيدٍ من الأراضي الأوكرانية، ولا تزال ترى في استقلال أوكرانيا تحديًا مباشرًا لمشروعها الإمبراطوري، وهنا تكمن خطورة "فنلدة أوكرانيا"؛ فهي لا تعني خسارة جغرافية فحسب، بل فتح الباب أمام روسيا لاستخدام أدواتٍ أخرى من الهيمنة.

وتذكر مصادر أن التجربة الفنلندية نفسها تؤكد هذا المعطى؛ فرغم وقف النار، لم تكفّ موسكو عن محاولات تطويع الداخل الفنلندي عبر وسائل الضغط السياسي والاقتصادي، ودعم الشيوعيين المحليين، والتحكم في السياسات الداخلية، ولذلك فإن أي اتفاق مشابه في الحالة الأوكرانية سيتيح لروسيا نقل المعركة من الجبهة العسكرية إلى الداخل الأوكراني، مستخدمةً أدوات "الحرب الهجينة" من تدخلات انتخابية وضغوط اقتصادية إلى إثارة الاضطرابات الاجتماعية.

 

 

ويحذر مراقبون من أن الأمر لا يقف عند حدود أوكرانيا؛ فأي "فنلدة" تُفرض عليها ستتحول إلى ثغرة استراتيجية تهدد دول البلطيق بما فيها بولندا، وفنلندا نفسها، بل وستعيد أوروبا إلى منطق الصفقات الجيوسياسية الذي كان سائدًا قبل الحرب العالمية الثانية، وهو ما يتعارض مع أحد أهم ركائز النظام الدولي بعد 1945 "حظر تغيير الحدود بالقوة".

إلى جانب ذلك، فإن الدعوة إلى تكرار "نموذج فنلندا" تتجاهل دروسًا أوضح من تجارب أخرى مثل تقسيم ألمانيا وكوريا، حيث فُرضت حدود أمر واقع (de facto) دون اعتراف قانوني (de jure)؛ ما سمح بإبقاء مبدأ رفض الغزو قائمًا حتى النهاية، وفي المقابل، فإن أي اعتراف رسمي بخسارة أوكرانيا لأراضيها سيكون بمثابة جائزة مجانية لموسكو.

 

 

يعتقد البعض أن الواقع الميداني يُظهر أن أوكرانيا عاجزة عن استعادة أراضيها بالقوة في المدى المنظور، لكن تجميد الصراع على خطوط التماس الحالية دون دعم غربي واسع سيعني ببساطة منح روسيا وقتًا لإعادة ترتيب صفوفها والتحضير لجولة جديدة من الحرب، وهنا تتحول "فنلدة أوكرانيا" من حلٍّ وسط إلى استسلامٍ مؤجل.

لكن تتزايد مخاوف خبراء أوروبيين، من أن أوروبا التي تدفع ثمن الحرب بشكل مباشر على صعيد الطاقة والأمن، ليست في موقعٍ يسمح لها بقبول صفقة تهدد استقرارها طويلًا؛ فالخطر يتجاوز بقاء أوكرانيا دولة مستقلة إلى مستقبل الأمن الأوروبي برمته، ولذلك، فإن أيّ تسوية لا بد أن تضمن لأوكرانيا تسليحًا متطورًا، وضماناتٍ أمنية غربية صارمة، ودعمًا اقتصاديًا طويل الأمد يمنع روسيا من استخدام أدواتها الهجينة لفرض هيمنتها.

في النهاية، "فنلدة" أوكرانيا ليست وصفة سلامٍ بقدر ما هي وصفة حربٍ مؤجلة تهدد القارة الأوروبية؛ فالتنازل عن الأراضي قد يوقف القتال مؤقتًا، لكنه سيمنح موسكو فرصة ذهبية لنقل الصراع إلى قلب كييف ومن ثم إلى العواصم الأوروبية، وهو ما يجعلها مخاطرة لا تستطيع أوروبا تحمل تبعاتها.

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة © 2025 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC