تقف معاهدة "ستارت 3" النووية بين روسيا وأمريكا على حافة الهاوية مع اقتراب موعد انتهاء سريانها في فبراير/ شباط 2026، فيما يرى خبراء أنها ستفتح سباقًا للتسلح النووي في العالم.
ويتصاعد القلق الدولي بشأن مستقبل أبرز اتفاق للحد من الأسلحة النووية بين البلدين، في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا.
وأثار تصريح نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، مؤخرًا، مخاوف جديدة، حين أعلن أن الحديث عن استئناف العمل الكامل بالمعاهدة يفقد معناه أكثر فأكثر، مرجعًا ذلك إلى "الدمار التام" الذي أصاب العلاقات بين موسكو وواشنطن، والتي تُعد شرطًا أساسيًا لإحياء الاتفاق.
وبحسب ريابكوف، فإن إحياء معاهدة "ستارت" لن يكون ممكنًا دون إعادة بناء العلاقات الروسية الأمريكية من الأساس، بما يشمل احترام مبادئ الأمن غير القابل للتجزئة، والتوازن في المصالح، والاعتراف بالترابط بين الأسلحة الاستراتيجية الهجومية والدفاعية.
ورغم أن موسكو لم تعلن انسحابها النهائي من المعاهدة، فإنها تشير بوضوح إلى أن العودة إليها مشروطة بتغيير أمريكي جذري في السياسات، والاعتراف بأن التقدم في مجال الحد من التسلح لا يمكن فصله عن السياق الأمني والسياسي الأوسع.
وبين غياب الثقة بين الولايات المتحدة وروسيا، وتحذيرات نائب وزير الخارجية الروسي، يبقى التساؤل الأبرز، فهل عاد شبح القيامة النووية بين روسيا وأمريكا؟
ويرى الخبراء، أن تعليق العمل ببنود معاهدة "ستارت"، ثم انهيارها الكامل، سيعيد العالم إلى مرحلة خطرة من سباق التسلح النووي، ويفتح الباب أمام نشر مزيد من الأسلحة والصواريخ الاستراتيجية دون رقابة أو شفافية.
وأكد الخبراء في تصريحات لـ«إرم نيوز» أن معاهدة «ستارت» تمثل ركيزة للاستقرار النووي بين روسيا والولايات المتحدة، رغم تعليق بعض بنودها مؤخرًا في ظل التصعيد العسكري في أوكرانيا.
وأشاروا إلى أن روسيا التزمت لفترة طويلة ببنود المعاهدة، مثل إبقاء الطيران الاستراتيجي في مناطق مكشوفة، رغم تعرضها لهجمات بالطائرات المسيرة، وذلك لتفادي انهيار منظومة الردع المتبادل.
وحذر الخبراء من أن موسكو قد تعيد النظر في هذا الالتزام إذا استمرت هذه الهجمات، بما قد يُضعف الثقة بين الطرفين ويهدد مستقبل الاتفاق.
بداية، قال رامي القليوبي، الأستاذ الزائر بكلية الاستشراق في المدرسة العليا للاقتصاد بموسكو، إن معاهدة "ستارت" تُعد من أهم اتفاقيات الرقابة على الأسلحة النووية بين روسيا والولايات المتحدة، اللتين تمتلكان نحو 90% من الترسانة النووية العالمية.
وأضاف القليوبي لـ"إرم نيوز"، أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تبنى خلال ولايته الأولى نهجًا يقوم على الانسحاب من المعاهدات التي تُقيد واشنطن، لكن مع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، تم تمديد المعاهدة خمس سنوات إضافية، حتى عام 2026.
وأوضح أنه رغم إعلان بايدن تعليق العمل بالمعاهدة في عام 2023، بعد تزايد انخراط الغرب في الحرب الروسية الأوكرانية، فإن بعض بنودها لا تزال سارية، مثل إلزام الطرفين بنشر الطيران الاستراتيجي في مناطق مكشوفة، بما يسمح بمراقبته عبر الأقمار الاصطناعية، ويُطمئن الطرف الآخر إلى عدم وجود استعداد لهجوم مفاجئ.
وأشار إلى أن روسيا التزمت بهذه البنود ولم تقم بإخفاء طيرانها الاستراتيجي داخل منشآت محصنة، ما جعلها عرضة لهجمات بالطائرات المسيّرة.
وأكد أن موسكو باتت تواجه معضلة، خاصة أنها حريصة على إظهار احترامها لالتزاماتها، لكنها تدرس حاليًا تعديل طرق تأمين طيرانها الاستراتيجي، ولو اضطرها الأمر إلى تعليق أو تجاوز بعض أحكام المعاهدة، بعدما تم استغلال هذه الثغرة في تنفيذ هجمات.
من جانبه، قال د. آصف ملحم، مدير مركز "JSM" للأبحاث والدراسات، إن تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب خلال القصف الروسي لأوكرانيا عكست إدراكًا بأن ما يحدث ليس سوى بداية التصعيد، حيث قال بوضوح «اقصفوهم إلى الجحيم».
وأضاف ملحم، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن الولايات المتحدة وروسيا تدركان أن معاهدة «ستارت» والأمن النووي بشكل عام ليسا مجالًا للمناورات أو المغامرة، ولا ينبغي للصراعات الإقليمية أن تعبث بهذا الملف الحساس.
واستشهد ملحم بتصريح لمايكل جرينز، المستشار الأمني في إدارة ترامب الأولى، وصف فيه ضرب القاذفات الروسية في مطاراتها بأنه إهانة لواشنطن وزيلينسكي على حد سواء، إذ من شأنه أن يمنح موسكو مبررًا لإخفاء قاذفاتها الاستراتيجية، ما قد يُحدث شرخًا في الثقة المتبادلة.
وأضاف ملحم أن روسيا رغم تعليقها مشاركتها في المعاهدة، إلا أنها تواصل الالتزام بالمبادئ العامة، مشيرًا إلى أن خروج واشنطن النهائي من الاتفاق سيكون بمنزلة كارثة عالمية.
وأوضح أن أي تغيير في طبيعة المعاهدة سيؤدي إلى أزمة ثقة، وربما تداعيات نووية غير محسوبة، وهو ما يجعل الملف خاضعًا لحسابات دقيقة بين الطرفين.
وقال الخبير في الشؤون الروسية، إن أي تصعيد في هذا المجال قد يُفسح المجال أمام حركات غير منضبطة للحصول على تكنولوجيا الطائرات المسيّرة، ما قد يؤدي إلى تهديد منشآت نووية، مثل مفاعل ديمونة أو غواصات نووية في ميناء حيفا، ما يشكل تهديدًا لا يخص روسيا وحدها، بل النظام الدولي بأسره.
وفي هذا السياق، أشار ملحم إلى أن ما فعله زيلينسكي باعتباره هجومًا مباشرًا على الطيران الاستراتيجي الروسي، لم يكن خطوة محسوبة، مؤكدًا أن استخدام القوة يجب أن يتم بحكمة لتحقيق أهداف سياسية، لا لجر المنطقة إلى صراع شامل.
وبين أن الطرفين النوويين، روسيا والولايات المتحدة، يدركان أنه لا مجال للمواجهة المباشرة، لكنهما يواصلان الضغط المتبادل، وتبقى معاهدة "ستارت" محل نقاش، وربما تخضع لتعديلات تجعلها أكثر شمولًا، لتضم دولًا أخرى فاعلة مثل الصين وبريطانيا وفرنسا، في إطار معاهدة دولية جديدة لضبط الأمن النووي العالمي.