مع إعلان النتائج النهائية للانتخابات العراقية تبدو واشنطن أمام أحد أعقد الملفات التي تواجهها في الشرق الأوسط؛ فالميليشيات المسلحة، التي خاضت الانتخابات بأجنحة سياسية، حصدت كتلة برلمانية غير مسبوقة تجاوزت نحو 90 مقعداً من أصل 329.
والميليشيات التي كانت تعد لعقود قوة موازية للدولة أصبحت اليوم جزءاً من بنيتها التشريعية، تمتلك كتلاً وازنة وقدرة تفاوضية تتفوق على غالبية الأحزاب التقليدية، وهو ما يضع العراق في قلب معادلة جديدة تتعلق بآلية تعامل الولايات المتحدة مع البرلمان القادم، وطبيعة الخيارات المتاحة أمامها.
ومنذ أسابيع، تَصاعد الخطاب الأمريكي تجاه العراق على نحو غير مألوف، إذ أطلق مبعوث واشنطن الخاص إلى دمشق، توم باراك، تصريحات حملت نقداً مباشراً لبنية النظام السياسي في العراق، معتبراً أن "الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة ملأته إيران"، وأن "الميليشيات أصبحت أقوى من البرلمان".
وهذا الخطاب، الذي تزامن مع قرب وصول مبعوث البيت الأبيض إلى العراق مارك سافايا، يؤشر – وفق خبراء - على رغبة واضحة في إعادة تعريف العلاقة مع بغداد، خصوصاً بعد أن باتت الفصائل تمتلك ثقلاً سياسياً قد يؤثر في ملفات الأمن والطاقة والوجود الأمريكي ذاته.
ووضعت نتائج الانتخابات الميليشيات المسلحة في موقع ريادي داخل البرلمان الجديد، إذ حصلت ميليشيا العصائب "الصادقون" على 28 مقعداً، تلتها منظمة بدر بـ18 مقعداً، ثم قوائم أخرى مثل "عطاء"، و"حقوق"، و"آراك"، و"خدمات"، و"سند"، وغيرها، ليرتفع مجموع ما حصلت عليه القوى الموالية للسلاح إلى أكثر من ثلث البرلمان.
ويمتد نفوذ هذه القوى إلى محافظات متعددة، ليس فقط في الوسط والجنوب، بل حتى في نينوى وصلاح الدين وديالى وكركوك، إذ تشير بيانات انتخابية إلى حصولها على ما يقارب ثلث مقاعد نينوى وحدها.
وفي هذا السياق، يرى الباحث السياسي علي ناصر أن "المرحلة المقبلة تختلف كثيراً عن سابقاتها، فالولايات المتحدة جادة هذه المرة في فرض العقوبات وفي إعادة رسم قواعد التعامل مع بغداد بعد أن أدركت حجم فشلها السابق، خصوصاً بعد تصريحات توم باراك عن إنفاق ثلاثة تريليونات دولار دون تغيير حقيقي للنظام العراقي".
وأضاف ناصر لـ"إرم نيوز" أن "واشنطن ستتحرك وفق معادلة مزدوجة؛ فهي تريد الاستثمار في العراق في مجالات النفط والغاز، لكنها تدرك أن أي حكومة تهيمن عليها الفصائل أو تكون خارج السيطرة الفعلية للقائد العام للقوات المسلحة ستجعل تلك الاستثمارات مستحيلة".
ويرى أن "الاستهداف العسكري غير مرجح حالياً، لكن بقاء العراق خارج الضبط الأمريكي سيجعل واشنطن أكثر ميلاً لاستخدام أدوات الضغط الاقتصادي، بينما تبقى إسرائيل طرفاً لا يمكن التنبؤ بتصرفاته في المرحلة المقبلة".
ويعني امتلاك ميليشيات مسلحة نحو 90 مقعداً أن تشكيل الحكومة الجديدة لن يكون ممكناً من دونها، باعتبارها تملك كتلاً مؤثرة داخل الإطار التنسيقي وخارجه، وتستطيع التحكم في توزيع الوزارات والمناصب العليا، ولا سيما الأمنية منها.
وتدرك واشنطن أن هذا الواقع سيجعل حكومة ما بعد 2025 أكثر قرباً من تلك الميليشيات، أو على الأقل أقل قدرة على مواجهة نفوذها؛ ما يهدد المصالح الأمريكية المباشرة، خصوصاً في ملفات الطاقة والتعاون الأمني والوجود العسكري.
من جانبه، يرى الباحث الأمني حميد العبيدي أن "الولايات المتحدة تنظر بعين القلق إلى صعود الفصائل داخل البرلمان؛ لأن ذلك سيؤثر مباشرة في ملفات حساسة، مثل: تنظيم العلاقة مع الحشد الشعبي، وضبط السلاح، والتنسيق الأمني، ومراقبة الحدود".
ويضيف العبيدي لـ"إرم نيوز" أن "واشنطن لم تعد تتعامل مع الفصائل كأطراف خارجية، بل كقوى تشريعية تمتلك القدرة على تعطيل أو تمرير أي قرار يخص الوجود الأمريكي، وهذا ما قد يدفع الإدارة الأمريكية إلى إعادة تفعيل أدوات الردع، من عقوبات مالية إلى تقييد حركة قادة الفصائل".
وبرغم أن واشنطن لم تظهر حتى الآن توجهاً واضحاً نحو استهداف مباشر، فإن جميع المؤشرات تذهب – وفق تقديرات سياسية – إلى أن المرحلة المقبلة ستكون الأكثر تعقيداً منذ سنوات.