الكرملين: مشاركة الأوروبيين في مفاوضات أوكرانيا "لا تبشّر بالخير"
تفتح الإشارة الأمريكية الأخيرة التي سمحت للشركات بالتفاوض مع "لوك أويل"، بابًا واسعًا لإعادة قراءة المشهد؛ فهي تعكس تحولًا ملموسًا في طريقة إدارة واشنطن للملف الطاقي المرتبط بالعقوبات على روسيا، أكثر مما تُعبّر عن خطوة إجرائية عابرة.
فمجرد السماح ببدء حوار حول أصول دولية مملوكة لإحدى أكبر الشركات الروسية، يعني أن الولايات المتحدة باتت تتعامل مع العقوبات بوصفها أداة لإعادة ترتيب مواقع النفوذ، وليس مجرد وسيلة لتقييد الحركة.
وحين منحت وزارة الخزانة الأمريكية تصريحًا مؤقتًا للتفاوض مع "لوك أويل"، بدا واضحًا أن واشنطن لم تعد تكتفي بخيار العقوبات كأداة ضغط، بل انتقلت إلى مرحلة أكثر تقدمًا تتمثل في مرحلة استثمار نتائج العقوبات لإعادة تشكيل النفوذ الاقتصادي.
والتصريح الأمريكي المؤقت، الذي ينتهي قريبًا، يشير إلى أن واشنطن تعطي نافذة محددة، تختبر عبرها مدى قوة موسكو على الصمود، ومدى استعداد الدول المضيفة للانفتاح على الشركات الأمريكية.
وقال مسؤول أمريكي رفيع، على اطلاع مباشر بالمحادثات الأولية بين الشركات والجهات الأمريكية المنظمة للقطاع، إن تحرك الشركات الأمريكية نحو أصول "لوك أويل"، يعكس ما وصفه بـ"إعادة معايرة هادئة للنفوذ داخل السوق العالمية".
وأوضح المسؤول، في حديثه لـ"إرم نيوز"، أن الولايات المتحدة تعتبر اللحظة الراهنة "نافذة نادرة لا تتكرر كثيرًا"، تسمح بإعادة إدخال الشركات الأمريكية إلى مناطق كانت موسكو تعتبرها امتدادًا لنفوذها الاستراتيجي.
وأضاف أن العقوبات المفروضة على روسيا خلقت ظرفًا يجعل بعض الأصول الروسية الخارجية مهيأة للتفاوض، لأنها أصبحت مكلفة سياسيًا وعمليًا بالنسبة لموسكو.
وتابع المسؤول الأمريكي: "الولايات المتحدة ترى في تحرك الشركات الأمريكية نحو هذه الأصول اختبارًا عمليًا لمدى قدرة روسيا على الدفاع عن موطئ قدمها في مناطق تعتبرها امتدادًا لعمقها الاستراتيجي"، لافتًا إلى أن "الأمر يتجاوز الشركة الروسية إلى حدود الصراع الدولي على اتجاهات الطاقة".
وبيّن أن الصفقة المحتملة، إن تمت، ستكون لها تبعات تتجاوز الشركات نفسها، لأن الدول المضيفة –كازاخستان والعراق– ستتعامل لأول مرة مع واقع تُبعد فيه شركة روسية لصالح شركة أمريكية، تحت غطاء قانوني وسياسي صنعته العقوبات.
وقال المسؤول إن هذا الوضع قد يدفع هذه الدول إلى إعادة التفاوض على الشروط، والاستفادة من المنافسة بين واشنطن وموسكو لتأمين مكاسب سيادية أكبر.
واعتبر أن الرهان الأمريكي الحالي هو أن تغير ملكية هذه الأصول سيخلق ديناميكيات جديدة داخل الدول المضيفة، ما قد يجعل خريطة الطاقة في المنطقة أكثر قربًا من المصالح الأمريكية على المدى الطويل.
وختم المسؤول بالقول إن الأسابيع المقبلة ستكون "حاسمة"، لأن استمرار المفاوضات أو انهيارها سيحدد ما إذا كان الغرب قد نجح بالفعل في تحويل العقوبات من وسيلة عقابية إلى أداة لإعادة توزيع النفوذ، مضيفًا أن واشنطن تراقب كل تفصيل، لأنها تعتبر أن أي صفقة من هذا النوع ستعيد رسم خطوط التأثير لسنوات قادمة.
فيما تحدث مسؤول روسي مطّلع على ملف شركات الطاقة، لـ"إرم نيوز"، قائلًا إن الاهتمام الأمريكي المفاجئ بأصول "لوك أويل" في الخارج، يُعتبر في الكرملين كخطوة ذات دوافع سياسية قبل أن تكون تجارية.
وأوضح المسؤول الروسي أن موسكو ترى في التحركات الأخيرة محاولة أمريكية لاقتناص الفراغ الذي خلقته العقوبات، واستغلال الضغط المالي على الشركات الروسية لإعادة رسم خريطة النفوذ الاقتصادي والطاقوي بشكل رئيس في آسيا الوسطى والعراق، على حد تعبيره.
وأضاف أن "لوك أويل" تواجه ظروفًا تشغيلية معقدة فرضتها بيئة العقوبات، مؤكدًا أن الشركة "ما زالت رابحة في أغلب حقولها، لكنها مجبرة على تقييم أصولها الخارجية ضمن حسابات أوسع تشمل إدارة المخاطر وتدوير السيولة".
وأشار المسؤول الروسي إلى أن موسكو تعتبر دخول الشركات الأمريكية إلى حقول ذات وزن استراتيجي –ككاراشاجاناك في كازاخستان أو غرب القرنة-2 في العراق– دليل على أن واشنطن تستخدم الشركات الكبرى كأدوات ضغط جيوسياسي، مُعتبرًا أن "التحرك الأمريكي لا ينفصل عن سياق أوسع يستهدف تقليص الحضور الروسي خارج الحدود".
وأكد أن موسكو لم تُغلق الباب أمام خيارات مختلفة، لكنها ترفض من حيث المبدأ أي صفقات تُفرض عليها تحت ضغط العقوبات، أو ضمن جداول زمنية تحمل صبغة سياسية.
وتابع: "أي تفاوض محتمل يجب أن يجري على أساس القيمة الاقتصادية الحقيقية للأصول".
وحذّر المسؤول الروسي من أن موسكو قد تلجأ إلى خطوات موازية لإعادة تثبيت حضورها في مناطق أخرى، سواء عبر تعزيز استثماراتها في إفريقيا أم تطوير علاقاتها الطاقية مع الصين والهند، مؤكدًا أن "روسيا لن تقف متفرجة في حال بدا أن الولايات المتحدة تتحرك لانتزاع مواقعها الأساسية".
وختم قائلًا إن روسيا تعتبر أن الصفقات التي تُبرم تحت الضغط "لا تبني استقرارًا"، وأن مستقبل التوازنات الاقتصادية في كازاخستان والعراق "لن تحدده الشركات وحدها، بل موازين القوة الإقليمية وقدرة الدول على حماية استقلالية قرارها".
بدوره، قال الخبير الاقتصادي المتخصص في استراتيجيات الطاقة والأسواق الدولية، مارك هارلين، إن التحرك الأمريكي نحو أصول "لوك أويل" يتجاوز إطار الاستثمار التجاري التقليدي، ليدخل في صلب معادلة إعادة تشكيل توازن القوة داخل أسواق الطاقة العالمية.
ورأى هارلين، خلال حديثه لـ"إرم نيوز"، أن "القيمة الاقتصادية للأصول الروسية ليست في حجم الاحتياطيات فقط، وإنما في مواقعها الجغرافية وقابليتها لأن تكون نقاط ارتكاز لإعادة ترتيب خطوط الإمداد نحو الأسواق الأوروبية والآسيوية".
وأشار إلى أن الدخول الأمريكي على خط هذه الأصول يضع ثلاثة آثار استراتيجية كبرى على الاقتصاد الدولي، أولها، انتقال جزء من القدرة الإنتاجية من شبكة خاضعة لموسكو نحو شركات قادرة على الاندماج في نظام مالي عالمي أكثر مرونة.
وهذا يعني، وفق هارلين، أن الطاقة التي كانت تتدفق عبر قنوات مرتبطة بالاقتصاد الروسي ستدخل تدريجيًا في منظومة تحكمها الشركات الغربية، وهو ما يعدّل التوازن داخل السوق العالمية على المدى المتوسط.
أما الأثر الثاني، فهو التأثير على الدول المضيفة نفسها، مثل كازاخستان والعراق، حيث ستجد هذه الدول نفسها أمام بنية تفاوضية جديدة تمنحها قدرة على موازنة النفوذ بين الطرفين الروسي والغربي.
واعتبر هارلين أن القبول بدخول الشركات الأمريكية سيمنح هذه الدول فرصة لزيادة القدرة التفاوضية لتحسين الشروط الإنتاجية، وتنويع الشركاء، وتخفيف الضغط الذي كانت تفرضه الشركات الروسية بحكم الظروف السياسية.
وأضاف أن الأثر الثالث والأكثر حساسية يتمثل في إعادة رسم خريطة الاستثمارات على المدى الطويل، إذ ستدفع هذه التحركات المستثمرين العالميين نحو الاعتقاد بأن الأصول الروسية خارج حدودها لم تعد حصينة كما كانت.
وهذا، من وجهة نظر هارلين، قد يفتح الباب أمام موجة استحواذات أوسع على أصول روسية في أسواق أخرى، الأمر الذي يغير معالم ملكية الطاقة خلال العقد المقبل.
من جانبها، رأت المحللة المتخصصة في شؤون الجغرافيا السياسية للطاقة، إليزابيث كورنوال، أنّ دخول الشركات الأمريكية في مفاوضات غير معلنة للاستحواذ على الأصول الخارجية للوك أويل هو تطور سياسي قبل أن يكون تطورًا اقتصاديًا.
وتقول كورنوال، خلال حديثها لـ"إرم نيوز"، إن المسألة الحقيقية تتصل بالمواقع التي تقع فيها، فهذه الحقول تشكل أجزاء من شبكة النفوذ الروسية، سواء في آسيا الوسطى أم الشرق الأوسط، والولايات المتحدة تدرك أن سحب هذه المواقع من النفوذ الروسي يحمل أثرًا سياسيًا لا يقل أهمية عن أثره الاقتصادي.
وتوضح كورنوال أن واشنطن لا تدرس الصفقة كمجرد فرصة استثمارية، وإنما كجزء من إدارة أوسع للصراع غير المباشر مع موسكو، فالتحرك الأمريكي يجري في توقيت شديد الحساسية، حيث تواجه روسيا ضغوطًا مالية من العقوبات، وشبكتها الدولية تتعرض لتراجع متزايد، فيما تستغل الولايات المتحدة اللحظة لإعادة إدخال شركاتها في مناطق كانت خلال العقد الماضي تحت ظلال النفوذ الروسي.
وتشير إلى أن الأثر السياسي الأساسي يظهر في آسيا الوسطى، حيث يشكل أي تراجع في ملكية الشركات الروسية رسالة واضحة بأن موسكو لم تعد قادرة على حماية مواقعها التقليدية.
وتؤكد كورنوال أن هذا سيمنح دول المنطقة هامشًا أكبر للمناورة السياسية والاقتصادية، كما قد يشجعها على تعزيز العلاقة مع واشنطن وفتح الباب أمام استثمارات غربية لم تكن ممكنة خلال السنوات الماضية.
وختمت بقولها إن "العالم يعيش مرحلة تتراجع فيها قدرة القوى التقليدية على حماية شبكات نفوذها، والشركات الكبرى تتحول إلى أدوات تستخدمها الدول لإعادة هندسة موازين القوة. ولذلك فإن دخول إكسون أو شيفرون في أصول كانت روسية هو فعل سياسي بامتياز، حتى لو جرى تغليفه بمبررات اقتصادية".