باتت منطقة البحر الأسود على حافة صراع عسكريّ "نووي"، عقب كشف روسيا عن نجاح اختبار طوربيدات نووية فائقة القدرة، بعد يومين فقط من نجاحها في إطلاق صاروخ كروز نووي، فيما أعلنت كييف عن نسخة جديدة من مُسيراتها المعروفة باسم "طفل البحر" والقادرة على حمل طنينِ من المتفجرات.
ويبدو أنّ منطقة البحر الأسود تتجه إلى مزيد من التّصعيد العسكريّ المتبادل بين موسكو وكييف، خاصة وأنّها منطقة غنية جدّاً بالثروات الباطنية من الغاز الطبيعي والنّفط.
ويأتي هذا التصعيد المتبادل بعد تعليق الجهود السياسية والديبلوماسية لحل النزاع وإيقاف الصراع الروسي الأوكراني المستمر منذ فبراير/شباط 2022، حيث فشلت كافة محاولات عقد قمة ثنائية بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين في العاصمة الرومانية بودابست.
وزادت الحزمة الأوروبية الجديدة من العقوبات الاقتصادية على روسيا من حدّة الأزمة ومن تصلّب كافة الأطراف المتحاربة في مواقفها السياسية والعسكرية.
وأكدّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنّ الطوربيد النووي من طراز "بوسيدون" حقق نجاحاً باهراً في الاختبار الميداني، مشيراً إلى أنّ قوته فاقت صاروخ "سارمات" العابر للقارات، وأنه لا وسيلة أبداً لاعتراضه.
وتشير مصادر عسكرية روسية إلى أنّ طوربيد "بوسيدون" قادر على العمل في أعماق تزيد على كيلومتر واحد وبسرعات تتراوح بين 60 إلى 70 عقدة.
وتؤكد ذات المصادر أنّ من خصائص "بوسيدون" أنه طوربيد ذاتي التوجيه وقادر على إحداث أمواج مشعة في المحيطات تجعل المدن الساحلية غير صالحة للسكن.
ووفقًا لمتابعين وخبراء استراتيجيين، تسعى روسيا إلى تحقيق سيطرة شبه كاملة على منطقة البحر الأسود، من خلال بسط نفوذها على السواحل الأوكرانية، بما يمكّنها من الاستحواذ على جزء معتبر من الاحتياطات الطاقية المكتشفة وغير المكتشفة في تلك المنطقة.
ويربط الخبراء في هذا السياق بين 3 مستجدات عسكرية روسية خطيرة جداً تؤثث وتشكل الرؤية الاستراتيجية الروسية لمنطقة البحر الأسود.
المستجد الأول ويتمثل في طوربيد "بوسيدون" الذي يعتبر كاسراً لكافة التوازنات العسكرية في منطقة البحر الأسود وفي منطقة القطب الشمالي، وفي كافة البحار التي تطل عليها السواحل الروسية.
والمستجد الثاني فهو صاروخ "بوريفيستنيك" النووي، والذي تؤكد المصادر العسكرية الروسية أنه "غير محدود المدى" ومؤهل لتخطي كافة منظومات الرادات مهما كان مدى تطورها وتقدمها التقني والرقمي، وقد أعلن بوتين عن نجاح الصاروخ في الاختبار النهائي يوم الأحد الماضي.
أما المستجد الثالث فمتمثل في صاروخ "سارمات" الباليستي عابر القارات الذي يعمل بالوقود السائل ويطلق من الصوامع ويصل مداه أكثر من 11185 ميلا، ما يتيح له ضرب أي هدف في أي مكان على سطح الأرض.
وهو صاروخ قادر على سلوك مسارات طيران غير تقليدية، ما يجعل من عملية رصده واستهدافه أمراً في غاية الصعوبة.
ويمثل دفع موسكو بهذه المنظومات التسليحية والصاروخية الحديثة والخطيرة، إضافة إلى تأكيدها الرسمي والنهائيّ على استمرارها في الخيار الحربي في أوكرانيا، إعلاناً واضحاً عن استراتيجيات لمزيد السيطرة على منطقة البحر الأسود.
وفي هذا السياق، لا يستبعد الخبراء العسكريون أن يكون المقابل الروسي لإنهاء الحرب هو استيلاء موسكو على الوجود الأوكراني على ضفاف البحر الأسود. ويعني ذلك بسط السيطرة على جزء معتبر من احتياطيات الغاز الطبيعي والنفط، بما يشكّل رافدًا مهمًا لدعم الاقتصاد الروسي المتأثر بالعقوبات الغربية. كما يُعتبر هذا الاستحواذ تعويضًا جزئيًا عن استغلال الأصول المالية الروسية في البنوك الأوروبية، التي تستفيد منها بروكسيل حاليًا وقد تستحوذ على كامل قيمتها خلال الأسابيع القادمة.
وتشير التقارير الاستراتيجية إلى أنّ مياه البحر الأسود تحتوي على كميات كبيرة من النفط، ويأتي تصديره من 3 محطات من: روسيا وكازاخستان وأذربيجان، بحوالي 1.8 مليون برميل يوميًا.
وزادت الاكتشافات التركية المتتالية لحقول الغاز والنفط في البحر الأحمر من فرضيات وجود مخزونات هائلة منهما لم تكتشف بعد، وهو لب وجوهر ما تحتاجه روسيا في هذه الفترة السياسية والاقتصادية الحرجة.
حيث كشفت أنقرة خلال هذه الصائفة عن اكتشافها احتياطات جديدة من الغاز الطبيعي بحجم 75 مليار مكعب أثناء عملية تنقيب في البحر الأسود.
وأجرت تركيا نحو 40 عملية تنقيب للغاز الطبيعي وللنفط في البحر الأسود، كلها أدت إلى اكتشافات متميزة، قد تفضي خلال السنوات القليلة القادمة إلى تأمينها الاكتفاء الذاتي الطاقي بشكل كامل. وتجدر الإشارة إلى أن تركيا تستورد أكثر من 90 % من احتياجاتها الطاقية.
في المقابل، انخرطت أوكرانيا بدورها في استعراض القوة العسكرية البحرية في "البحر الأسود"، في رسالة تؤكد من خلالها على الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة، وأدوارها الحيوية في الطاقة وفي النقل حيث إنها تربط بين آسيا وأوروبا وأفريقيا عبر البحر الأبيض المتوسط، وتمثل همزة وصل "البلدان الجليدية" بالمياه الدافئة.
حيث كشفت كييف مؤخراً عن نسخة متطورة من مُسيراتها البحرية المعروفة باسم"سي بيبي" طفل البحر"، مشيرة إلى أن إمكانية استهدافها لأي مكان في البحر الأسود وحمل طنين اثنين من المتفجرات.
وتستطيع مسيرة "طفل البحر" قطع مسافة 1500 كيلومتر، بعد أن كانت لا تتجاوز مسافة 1000 كيلومتر فقط، الأمر الذي يمنحها وفق المتابعين والخبراء الأوكرانيين قدرة على توجيه ضربات بعيدة المدى لأهداف بحرية بعيدة ومتوسطة المدى.
وأشارت مصادر عسكرية قريبة من كييف إلى أنّ هذه المسيرات قادرة على استهداف البنية التحتية الروسية الحيوية وعلى رأسها السفن والجسور، لا سيما أن روسيا لا تزال تحافط على أسطول بحري متكامل في البحر الأسود.
وتشير ذات الجهات إلى أن الإعلان العسكري الأوكراني يعكس أن الصراع القادم بين روسيا وأوكرانيا، في ظل الدعم المالي والتسليحي واللوجستي الأوروبي والغربي، سيركز على استمرار الحرب بين الطرفين، مع طابع يغلب عليه الصراع البحري أكثر من البري.
ويبدو هذا الملمح منطقيًا بالنظر إلى الرؤية الاستراتيجية الروسية في تعزيز سيطرتها البحرية على الجنوب الأوكراني، بعد التقدم الملحوظ للجيش الروسي في الأقاليم الجنوبية التي تطمح موسكو إلى ضمها نهائيًا. وتطرح روسيا هذا المبدأ كأساس للتفاوض وإنهاء الحرب، وهو ما ترفضه كييف وبروكسل بشكل قاطع.
وتوضح المصادر ذاتها أنّ أوكرانيا استخدمت زورقين مسيرين "ماريتشكا" و"ماغورا في5" خلال هجمات نوعية استهدفت سفنا روسية في 2023 وفي 2024، على غرار مدمرة "سيرغي كوتوف".
وتزعم هذه المصادر أنّ القوة البحرية الأوكرانية تمكنت من القضاء الكلي والجزئي على ثلث القوة البحرية الروسية، حيث تمكنت كييف حسب بعض الأقوال من إصابة أو تعطيل أو إغراق العديد من سفن الإنزال والسفن الدورية والمدمرات المتوسطة والكبرى.
وفي سياق تصاعد الحرب البحرية في البحر الأسود بين موسكو وكييف، ومع تصاعد الرد الأمريكي على التطورات العسكرية الروسية، التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة من التطور التقني والجوي والنووي، أكدت واشنطن أنها تمتلك غواصة نووية قبالة السواحل الروسية.
وانتقد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الجهد الروسي المحموم في اختبار الصواريخ، مشيراً إلى أنّ الحرب التي كان من المفترض ان تستغرق أسبوعاً واحداً تقترب من عامها الرابع.
ولم يحدد ترامب بالضبط أيّ ساحل روسي تتمركز فيه الغواصة النووية الأمريكية، ولكن من الواضح أنّ مغزى الرسالة الأمريكية يكمن في عدم حاجة واشنطن لصواريخ عابرة للقارات لضرب روسيا، ذلك أنّها تمتلك على مرمى حجر من روسيا مدمرة نووية.
وفي كافة الأحوال، من الواضح أنّ الخيار العسكري لا يزال معتمداً ومعولاً عليه من كافة الأطراف الفاعلة في المشهد، حيث لا يزال خطاب "فائض القوة" مسيطراً على دوائر اتخاذ القرار في الكرملين وفي بروكسل وفي واشنطن أيضاً.
لعبت منطقة البحر الأسود أدوارًا تاريخية بارزة في الصراعات بين الإمبراطوريات السابقة، إذ كانت مسرحًا للاحتراب بين القوى الكبرى، وغرقت فيها إمبراطوريات بينما نجت أخرى. واليوم، قد تستمر المنطقة في لعب نفس الدور الاستراتيجي، من خلال التأثير على مصائر الدول القديمة والإمبراطوريات المترهلة في القارة "العجوز"، وفتح المجال أمام فاعلين جدد لدخول مرحلة استراتيجية جديدة.