أسابيع فقط تفصل العراق عن انتهاء واحدة من أطول البعثات الأممية عمراً في تاريخه الحديث، مع مغادرة بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق "يونامي" نهائياً بنهاية العام الحالي، بعد 22 عاماً كانت خلالها جزءا من البنية السياسية والإنسانية التي رافقت مرحلة ما بعد 2003.
وفيما تؤكد الحكومة أن مغادرة البعثة تمثل "استعادة كاملة للسيادة"، يتعامل سياسيون وفاعلون محليون مع هذا التحول بوصفه لحظة انتقال كبرى تزامنت مع الانسحاب التدريجي للقوات الأمريكية حتى سبتمبر/ أيلول 2026.
بدأت مكاتب "يونامي" في شمالي العراق بالإغلاق منذ منتصف العام، على أن تغلق بقية مكاتبها في بغداد والمحافظات مع نهاية الشهر، قبل أن تفكك منشآتها بالكامل خلال العام المقبل.
ويؤكد التقرير الأخير لرئيس البعثة محمد الحسان أمام مجلس الأمن أن الرحيل "يمثل نهاية مرحلة وبداية أخرى قائمة على قيادة العراق لمستقبله"، مع الإشارة إلى استمرار الأمم المتحدة في تقديم الدعم عبر فريقها القطري بمختلف اختصاصاته، من حقوق الإنسان إلى الهجرة، ومن البيئة إلى التنمية المستدامة.
ولم تخف الحكومة العراقية رغبتها في إنهاء البعثة منذ عام 2024، معتبرةً أن مهام المراقبة السياسية والانتقال الديمقراطي لم تعد ضرورية، وأن العلاقة مع الأمم المتحدة يجب أن تنتقل إلى شراكة فنية وتنموية لا وصاية فيها.
وساند المندوب العراقي لقمان الفيلي هذا التوجه خلال إحاطته الأخيرة، حين وصف يونامي بأنها "بعثة ديناميكية أنهت دورها بنجاح، وأن المرحلة المقبلة ستعتمد على برامج مشتركة متوازنة".
يتزامن هذا التحول مع مسار مواز لا يقل أهمية، يتمثل بالانسحاب التدريجي للقوات الأمريكية، التي انخفض عددها من 200 ألف جندي في سنوات الغزو إلى نحو 2500 عنصر، مع اتفاق بغداد وواشنطن على الإبقاء على 250 إلى 350 مستشاراً ومدرباً داخل إقليم كردستان بعد 2026.
وبينما ترى واشنطن أن التعاون الأمني ضرورة مستمرة، خصوصاً في ظل هشاشة الإقليم المحيط بالعراق، تسعى الإدارة الأمريكية في الوقت ذاته إلى ممارسة ضغوط إضافية على بغداد لتقليص نفوذ الفصائل المسلحة المرتبطة بطهران.
وبدوره، قال الباحث في الشأن السياسي علي البيدر، إن "العراق تجاوز مراحل شديدة التعقيد خلال الأعوام الماضية، وبدأ يتحرك فعلياً باتجاه ترسيخ مؤسسات الدولة وتوسيع حضورها".
وأضاف البيدر لـ"إرم نيوز"، أن "البيئة السياسية والمجتمعية أصبحت أكثر نضجاً، بعدما أدرك الشارع حدود الطائفية والفساد ومخاطر استمرار الفوضى؛ وهو ما دفع جزءاً مؤثراً من المنظومة السياسية إلى الاقتراب من خيار بناء الدولة، لا الاكتفاء بإدارة المرحلة".
وأشار إلى أن "إنهاء مهمة يونامي، رغم جرأته ومفاجأته، يؤكد رغبة حقيقية لدى بعض الأطراف في أن يتولى العراق إدارة شؤونه بعيدا عن الهياكل التي ارتبطت بمرحلة ما بعد 2003".
وفي ما يتعلق بالوجود الأمريكي، رأى البيدر أن "الانسحاب الكامل يبقى مستبعدا في ظل التحولات الإقليمية الراهنة"، مؤكدا أن "واشنطن تدرك أن أي فراغ أمني في العراق لا ينسجم مع حساباتها ومصالحها الاستراتيجية، ولذلك ستبقي جزءا من قواتها لأغراض تتعلق بالتدريب والحماية والاستقرار".
وبرغم إنهاء الولاية السياسية للبعثة، تؤكد الأمم المتحدة أن وجودها لن يغادر العراق بالكامل؛ إذ ستستمر وكالاتها العاملة في ملفات التعليم والصحة والطاقة وحقوق الإنسان وإزالة الألغام، إضافة إلى دورها في متابعة ملفات المفقودين الكويتيين والممتلكات التي نُقلت إلى العراق خلال حقبة النظام السابق.
ومع تعاقب السنوات، توالت على رئاسة البعثة شخصيات عديدة، أبرزها أد ميلكرت ونيكولاي ملادينوف، ثم يان كوبيش، فجينين بلاسخارت، وصولًا إلى محمد الحسان.
وكانت بلاسخارت، الأكثر حضورا في الذاكرة العراقية؛ إذ سلّطت الضوء على السلاح خارج الدولة، وحذّرت من النفوذ الموازي، وواجهت الحكومات والبرلمانات بتقاريرها، رغم حفاظها على قنوات تواصل عملية مع الجهات نفسها لضمان استمرار قدرتها على العمل داخل بغداد.
من جهته، أكد الناشط في مجال حقوق الإنسان وسام العبد الله، أن "خروج يونامي لا يعني انتفاء الحاجة لمراقبة أو دعم، بل انتقال المسؤولية إلى مؤسسات الدولة العراقية في التزامات حقوق الإنسان".
وأوضح العبد الله لـ"إرم نيوز" أن "هذا التحول يضع عبئا إضافيا على الحكومة لضمان حماية الفئات الهشة، خصوصا النازحين والأقليات، في ظل استمرار التحديات الأمنية والاجتماعية"، مشيراً إلى أن "الأدوار الأممية في العراق ستبقى قائمة عبر المنظمات المتخصصة؛ ما يجعل الشراكة مستمرة ولكن بصيغ مختلفة"، معتبرا أن "نجاح المرحلة المقبلة مرتبط بقدرة العراق على دمج الخبرات الدولية ضمن مؤسسات فاعلة وقابلة للمساءلة، مع إبعادها عن الفساد والمحاصصة".
ومع قرب مغادرة "يونامي"، وتحول الحضور العسكري الأمريكي، وتزايد الضغوط السياسية المحيطة بالعراق من ملفات الميليشيات إلى النزاعات الإقليمية، تدخل البلاد مرحلة عنوانها الأبرز انتقال المسؤولية الكاملة إلى المؤسسات المحلية، مع استمرار دعم دولي لكن بصيغة جديدة.