حطّ وفد روسي رفيع المستوى، قبل يومين، برئاسة ألكسندر نوفاك، نائب رئيس الوزراء، في العاصمة السورية دمشق من جديد، في زيارة ثانية منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي، وسط تساؤلات تتردد حول الجدوى من الزيارة والجديد الذي تحمله.
وركزت المحادثات على ملفي الطاقة وإعادة الإعمار، حيث عرض الجانب الروسي المشاركة في إعادة تأهيل قطاع الكهرباء والنفط، مع بحث إمكانية تحويل جزء من الديون السورية إلى استثمارات مباشرة، وتمثل هذه النقطة فارقًا ملموسًا عن الزيارة الأولى في يناير، التي اقتصرَت على فتح قنوات الحوار بعد التغيير السياسي الكبير.
ورغم مرور يومين على الزيارة، لا تزال أصداء المحادثات مستمرة، خصوصًا فيما يتعلق بالتعاون العسكري؛ إذ تسعى موسكو إلى تثبيت وجودها في قاعدتي "حميميم" و"طرطوس"، وفي نفس الوقت، تضع دمشق شرطًا بأن أي تعاون أمني يجب أن يكون في خدمة الشعب السوري.

ووفقًا للمراقبين، طرح الروس مسألة تدريب وإعادة هيكلة الجيش السوري كجزء من مشروع طويل الأمد، وليس مجرد دعم ظرفي كما كان في السابق.
ومهد الوفد الروسي الطريق لزيارة مرتقبة للرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو في أكتوبر، للمشاركة في القمة العربية-الروسية، وتعني هذه الخطوة أن موسكو تريد لعب دور الضامن للعلاقات الإقليمية الجديدة لسوريا، بما في ذلك الملف الشائك للمفاوضات السورية - الإسرائيلية، والتنسيق مع تركيا.
ويرى ميرزاد حاجم، المحاضر الجامعي وعضو مركز البحوث العلمية التطبيقية والاستشارية، أن موسكو لن تخرج حتى الآن من دمشق، خاصة وأن روسيا لديها قواعد عسكرية ثابتة، وأخرى قائمة ضمن اتفاقيات استراتيجية مع الدولة السورية، ولا يهمها شكل الحكم، بل كانت دائمًا مع وحدة وهيكلية الدولة السورية، بغض النظر عن النظام الحاكم.
وأشار في تصريحات، لـ"إرم نيوز"، إلى أن الزيارة الثانية للوفد الروسي لدمشق تستهدف متابعة ملفات الطاقة المستقبلية، ومناقشة مسألة الديون المترتبة على الحكومة السورية. وبالنسبة لروسيا، فإن سوريا تُعد بالغة الأهمية؛ فهي تمنحها منفذًا استراتيجيًّا على البحر الدافئ، وقواعدها تطل على البحر المتوسط.

وأضاف حاجم أن سوريا تمثل امتدادًا للأمن القومي الروسي، سواء من الناحية الجيوسياسية أو الثقافية، خصوصًا فيما يتعلق بالمسيحيين الأرثوذكس والتاريخ المشترك بين البلدين. وبالتالي، من غير الدقيق القول إن روسيا خرجت من سوريا، فقاعدة حميميم لا تزال قائمة، وقاعدة القامشلي كذلك، إضافة إلى وجود قواعد وموانئ أخرى.
ولفت إلى أن روسيا لعبت دورًا محوريًّا في تجنيب سوريا الدخول في حرب أهلية دموية جديدة، وساهمت في ضمان السلام والاستقرار، ولم تتدخل في الشؤون الداخلية السورية خلال الفترة الأخيرة، بل كانت عاملًا ضامنًا للانتقال السلمي، وساهمت في الحفاظ على وحدة الدولة السورية.
لذلك؛ فإن وجود روسيا في سوريا ضروري لاستقرار المنطقة، وليس دليلًا على تدخل خارجي سلبي.
من جانبه، أكد إبراهيم كابان، مدير شبكة الجيو-استراتيجي للدراسات، أن روسيا لم تغادر سوريا في أي مرحلة من مراحل الأزمة، بل حافظت على وجودها العسكري والسياسي في مواقع استراتيجية داخل البلاد، وتسعى اليوم إلى إعادة ترسيخ نفوذها بشكل أوسع.
وقال كابان في تصريحات، لـ"إرم نيوز"، إن القواعد الروسية الرئيسية في سوريا لم تشهد أي انسحاب أو تقليص في التواجد العسكري، بل استمر الحضور الروسي الفعلي، حيث تحتفظ موسكو بقاعدتين عسكريتين رئيسيتين على الساحل السوري، إلى جانب إنشاء قاعدة جديدة في مدينة القامشلي الواقعة ضمن مناطق الإدارة الذاتية شمال شرقي البلاد.
وهذا يعني أن روسيا تتواجد اليوم بثلاث قواعد عسكرية نشطة، تؤمن لها نفوذًا واسعًا على الأرض السورية.
وأشار إلى أن الوجود لا يقتصر فقط على الجانب العسكري، بل إن هناك عقودًا دولية موقعة مع النظام السوري السابق لا تزال قائمة وملزمة قانونيًّا، ولا تستطيع دمشق التنصل منها أو التهرب من تنفيذها، ما يمنح موسكو موطئ قدم قانونيًّا وشرعيًّا لتعزيز حضورها في سوريا.
وأضاف كابان أن النظام السوري الحالي يسعى إلى تعزيز علاقته مع موسكو في إطار استراتيجية تهدف إلى خلق توازن في علاقاته الدولية، ولا سيما مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وتابع: "يبدو أن دمشق تحاول اتباع نهج النظام السابق، الذي كان يوازن في علاقاته بين الغرب وروسيا، بحيث تبقى حليفًا للطرفين في آنٍ واحد، وهو ما يُعتبر محاولة لإعادة إنتاج سياسة المحاور بطريقة أكثر براغماتية".
وقال كابان، إن هذه الاستراتيجية الجديدة يتم تنفيذها بقيادة أحمد الشرع، الذي يتولى إدارة المرحلة الحالية، ويبدو أنه يسعى إلى توظيف العلاقة مع موسكو في سياق إقليمي أوسع. وفي هذا السياق، فإن الحضور الروسي في سوريا مرتبط أيضًا بالدور التركي المتزايد في الملف السوري، خاصة فيما يتعلق بتأثير أنقرة على القرارات السياسية التي تُتخذ في دمشق.
وشدد كابان على أن العلاقة بين موسكو ودمشق تمر عبر أنقرة، وأن لتركيا تأثيرًا مباشرًا على إعادة تشكيل هذه العلاقة، وأن رأس الهرم في هذا المشهد المعقد هو العلاقة الثلاثية بين أنقرة ودمشق وموسكو، حيث تلعب أنقرة دور الوسيط المؤثر في أي تفاهمات أو تحولات استراتيجية في العلاقة بين دمشق وموسكو.
وأشار إلى أن موسكو، منذ بداية الأزمة، لم تكن لتقبل بتغيير النظام في دمشق دون موافقتها المباشرة، وهو ما يعزز من فرضية أن وصول أحمد الشرع إلى السلطة لم يكن بعيدًا عن ضوء أخضر روسي، أو على الأقل بمباركة ضمنية من القيادة الروسية، في إطار تفاهمات إقليمية ودولية تزداد تعقيدًا وتشابكًا مع مرور الوقت.