تعيد الأحداث الجارية في محافظة السويداء كتابة "قواعد الاشتباك" بطريقة غير مسبوقة، ولا سيما أن الجغرافيا في الجنوب السوري لطالما تداخلت بالحسابات الدولية.
باتت السويداء، التي كانت تُعد حتى وقت قريب إحدى أكثر مناطق سوريا استقراراً نسبياً، ساحة مواجهة معقّدة، تتنازعها أطراف متعددة؛ بين السلطة الانتقالية السورية، الفصائل المحلية الدرزية، وإسرائيل التي دخلت المواجهة علناً عبر ضربات جوية مركزة وتصريحات رسمية مباشرة.
لكن ما الذي تعنيه هذه التطورات فعلياً؟ وكيف يمكن قراءة التبدّل المفاجئ في التوازنات، خاصة بعد إعلان إسرائيل أنها لن تسمح بوجود أي تهديد عسكري في الجنوب السوري؟ ومن الذي يكتب فعلاً قواعد اللعبة في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة من تاريخ سوريا؟
وفي شهادة ميدانية، لـ"إرم نيوز"، من داخل محافظة السويداء، فإن وقف إطلاق النار المعلن لم يكن إلا صيغة هشّة لم تلبث أن انهارت خلال ساعات.
وواصلت مجموعات محسوبة على فصائل تابعة للجيش السوري الجديد وجهاز "الأمن العام" التابع للسلطة الانتقالية عمليات التصفية والتنكيل، في وقت لم تُبدِ الفصائل المحلية أي نية لتسليم السلاح أو الانسحاب من مواقعها.
ويقول أحد وجهاء المدينة، إن السلطة الانتقالية "تُعيد إنتاج سلوك النظام السابق، لكن بوجوه جديدة" وفق تعبيره.
ويضيف: "القوة لا تصنع استقراراً. السويداء ليست عدواً للدولة، لكنها ترفض أن تكون ضحية لحسابات عسكرية لا تُبنى على التفاوض بل على فرض الأمر الواقع".
وتشير المعطيات إلى أن حجم الاستياء الشعبي في المدينة تجاوز الطابع السياسي، ليأخذ شكلاً مجتمعياً عاماً، خصوصاً مع تسجيل عشرات الإصابات في صفوف المدنيين، وقطع الكهرباء والماء عن أحياء سكنية كاملة، في وقت يشير فيه بعض الأهالي إلى تواطؤ رسمي في إشعال الصدام منذ أيام بين الفصائل المحلية الدرزية وعشائر البدو في السويداء.
وقد يكون التحول الأبرز في هذا التصعيد في ما جرى خارج المدينة، وذلك إثر الضربات الجوية الإسرائيلية التي ارتفع منسوب رمزيتها العسكرية منذ صباح اليوم. فقد أعلنت إسرائيل، اليوم الأربعاء، على لسان وزير دفاعها، يسرائيل كاتس، إن "الإشارات انتهت في دمشق، والآن ستأتي الضربات الموجعة".
وأضاف كاتس أن الجيش الإسرائيلي سيواصل عملياته في السويداء للقضاء على القوات التي هاجمت الدروز حتى انسحابهم الكامل.
بدوره، أكد مصدر دبلوماسي غربي رفيع، أن إسرائيل "تراقب بدقة ما يجري في السويداء، وترى أن تشكيل الجيش الجديد يمس مباشرة بتفاهمات غير مكتوبة حول حدود الوجود العسكري على مقربة من الجولان المحتل".
وأضاف المصدر، أن "الضربات الأخيرة ليست مجرد ردّ تكتيكي على تجاوزات السلطة الانتقالية بحق أهالي السويداء، بل هي جزء من رسالة استراتيجية واضحة: لا خطوط تماس جديدة من دون موافقة إسرائيلية".
ويرى الدبلوماسي أن إسرائيل لا تنظر إلى الفصائل الدرزية بوصفها تهديداً عسكرياً، إنما تعتبرها جزءاً من توازن محلي طويل الأمد في الجنوب السوري، فيما تنظر بعين القلق إلى محاولات عسكرة المشهد من قبل السلطة الانتقالية عبر إدخال دبابات وآليات ثقيلة إلى المحافظة.
ووفق ما نقله ناشط محلي، لـ"إرم نيوز"، فإن "فصائل السويداء لا تطالب بالانفصال أو الاستعانة بأي جهة خارجية، لكنها تطالب بانسحاب كافة القوى العسكرية من المحافظة. وهي، مستعدة للتفاوض، لكنها لن تساوم على كرامة الجبل".
وبحسب التقديرات التي يشير إليها مراقبون، فإن إسرائيل تختبر عبر السويداء شكل الدولة السورية المقبلة، كذلك فإن السويداء هي نافذة لمعرفة كيف ستتعامل السلطة الانتقالية مع الأقليات، مع التسلّح المحلي، ومع اللامركزية، وكلها قضايا تهم تل أبيب في تقييمها الطويل الأمد للوضع السوري.
وفي هذا السياق، يرى بعض المحللين أن الضربات الإسرائيلية كانت بمثابة رسم “حدود هوامش القوة المقبولة”، وليس فقط تحذيراً ظرفياً، فتل أبيب تريد ضمان ألا يتحول الجنوب السوري إلى ساحة مناورة لفصائل أو سلطات قد تستخدمه كورقة ضغط أو بوابة تهديد لاحق.
ويبدو أن السلطة الانتقالية اختارت عسكرة التفاوض بدلاً من خلق شراكة مدنية مع المجتمع المحلي، متبنية منطق "الهيبة العسكرية" لتثبيت نفسها جنوباً، وفق ما يشير إليه المصدر الدبلوماسي.
في المقابل، لم تُقدّم السلطة حتى الآن خطاباً سياسياً متماسكاً يشرح هدفها من الحملة، ولا وضعت إطاراً زمنياً أو قانونياً لتدخّلها الأمني، الأمر الذي دفع مراقبين لوصف السلوك الرسمي بـ"الارتجالي" و"المُستنَسخ من منهج النظام السابق في إدارة الأطراف بالقمع".