ليس في زيارة وزير الخارجية السوري الانتقالي أسعد الشيباني إلى موسكو ما يُشبه الزيارات البروتوكولية التي اعتادتها العاصمة الروسية في سنوات الهيمنة على القرار السوري.
موسكو التي كانت تصوغ عبر دمشق حدود اشتباكها مع الغرب، وجدت نفسها هذه المرّة أمام واقع لم تشارك في إنتاجه.
وفي ظل هذا التحول، لم تعد زيارة الشيباني إلى موسكو تُفهم في إطار استمرارية العلاقات التقليدية بين دمشق وموسكو، بقدر ما باتت تُقرأ باعتبارها اختبارًا عمليًّا لموقع روسيا في سوريا ما بعد الأسد، في ظل سلطة جديدة لا تملك موسكو ذات الهيمنة عليها كما في السابق.
ووفق تصريح مصادر دبلوماسية روسية، لـ"إرم نيوز"، فإن موسكو ترى أن سوريا تحوّلت إلى ساحة نفوذ غير مضمونة بالكامل، تشهد انتقالًا حذرًا من علاقة خاضعة للتوجيه الروسي إلى وضع سياسي أكثر تحفّظًا.
ولعل جوهر هذه الزيارة لا يتعلق بمضامينها المعلنة، بقدر ما يعكس حاجة موسكو إلى ترميم موقعها داخل منظومة حكم لم تعد تستجيب تلقائيًّا لتوجيهاتها، وفق المصادر.
وأفادت المصادر الدبلوماسية الروسية بأن موسكو تتعامل مع زيارة الشيباني بوصفها اختبارًا دبلوماسيًّا هادئًا، مشيرة إلى أن القيادة الروسية "تحرص على تجنّب الظهور بموقع اللاعب الذي خرج من الحلبة".
وأشارت إلى أن روسيا انشغلت خلال الأشهر الماضية بملفات اعتبرتها أكثر أولوية، من الحرب في أوكرانيا إلى محاولات تثبيت نفوذها في السودان وليبيا، غير أنها في الوقت نفسه بدأت مراجعة داخلية لطبيعة وجودها في سوريا.
وأوضحت المصادر أن موسكو تنظر إلى الشيباني، أو إلى السلطة الانتقالية في دمشق، بوصفها نتاجًا سياسيًّا لا يُبدي خصومة علنية، لكنه في المقابل لا يُظهر انحيازًا واضحًا.
وأضافت أن العلاقة مع دمشق تمرّ حاليًّا بمرحلة رمادية، وأن الموقف الروسي في هذه المرحلة يقوم على المراقبة والانخراط التكتيكي، لا على الاستثمار الاستراتيجي، إلى حين تبلور فهم أوضح لطبيعة السلطة الجديدة واتجاهها العام في ملفات مثل إعادة الإعمار والمفاوضات الدولية، والتموضع الإقليمي.
وفي ما يتعلّق بالقواعد العسكرية الروسية في سوريا، اعتبرت مصادر، لـ"إرم نيوز"، أن إدارة بوتين تُصر على عدم فتح أي نقاش رسمي بشأن مستقبل قاعدتي حميميم وطرطوس، إذ ترى موسكو أن وجودها العسكري يشكل عنصرًا من عناصر التوازن الإقليمي، ولا ينبغي أن يخضع لمتغيرات السلطة الداخلية في دمشق.
ورغم تفادي الروس أي مواجهة مباشرة مع السلطة الجديدة في هذا الملف، إلا أنهم يعولون على ضغوط غير مباشرة، دبلوماسية واقتصادية، للحيلولة دون إدراجه ضمن جدول النقاشات في هذه المرحلة.
أما في ما يخص العلاقات الاقتصادية، فتُقر المصادر الروسية بأن الرهانات الروسية على النفوذ الاقتصادي في سوريا لم تعد واقعية كما كانت قبل سقوط نظام الأسد.
ومع ذلك، ترى موسكو أن المحافظة على واجهة اقتصادية شكلية مع دمشق ضرورية لـ"أسباب رمزية" خلال الفترة الحالية.
ويبدو أن التحركات الروسية الأخيرة – بدءًا باتصال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول الملف السوري، مرورًا باستقبال الشيباني في موسكو، ووصولًا إلى توجيه دعوة للرئيس الانتقالي أحمد الشرع – توحي بمحاولة واضحة لإعادة تعريف موقع موسكو داخل معادلة الحكم الجديدة في سوريا، وفق ما أكده المحلل السياسي المتخصص في الشؤون الروسية، ألكسندر بيتروف.
وقال بيتروف، لـ"إرم نيوز"، إن "روسيا تريد أن تُفهم على أنها طرف لا يعارض الانتقال السياسي، بل يحمي استقراره، ما يتيح لها الاحتفاظ بدور مرن ضمن موازين القوى القادمة".
فيما اعتبر الباحث السياسي في العلاقات الدولية، مضر عبد الكريم، أن الحديث عن "مفاوضات موسعة تشمل العلاقات التجارية والاقتصادية"، وفق ما أشار إليه في وقت سابق نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي فيرشينين، هو بوابة لعودة روسيا إلى سوريا عبر الاقتصاد بعد تراجعها في المجالات السياسية والعسكرية والأمنية.
وقال عبد الكريم، لـ"إرم نيوز"، إن "موسكو تسعى على ما يبدو، إلى إعادة تفعيل مجموعة من العقود المؤجلة أو المجمدة، مثل صفقات التنقيب البحري، ومشاريع الطاقة".
وأردف بالقول: "لكن المشكلة أن هذه العقود وُقعت مع نظام لم يعد قائمًا، ولا يمكن تثبيتها من دون موافقة السلطة الجديدة، التي يُحتمل أن تنظر إليها بعين الريبة، بوصفها عقودًا غير متكافئة".
ولهذا السبب؛ فإن الشق الاقتصادي في زيارة الشيباني يحمل بُعدًا سياسيًّا عميقًا، يختبر ما إذا كانت دمشق الجديدة مستعدة لشراء الاستقرار الروسي، أم أنها ستعيد النظر في كل ما سبق، بحسب الباحث عبد الكريم.
بينما أشار المحلل ألكسندر بيتروف إلى أن موسكو، وعلى امتداد المجال السوفيتي السابق، لطالما اعتمدت استراتيجيات بديلة حين فقدت سيطرتها المباشرة على الأنظمة المحلية، لكنها في المقابل رفضت الخروج من المعادلة.
ففي جمهوريات آسيا الوسطى، كما في بيلاروسيا لاحقًا، لجأت موسكو إلى مزيج من الأدوات الاقتصادية – مثل الاتفاقيات الجمركية، ومشاريع الطاقة، والقروض المشروطة – والأمنية، كالتعاون العسكري، ونشر قوات رمزية، وربط الأجهزة الاستخباراتية المحلية بها، وذلك بهدف إعادة تكوين حضورها بوصفه ضرورة إقليمية، على حد تقديره.
وأضاف بيتروف أنه "في ليبيا، وعلى الرغم من غياب اعتراف دولي صريح بدور موسكو، حافظت الأخيرة على خيوط نفوذ غير مباشرة من خلال شركات عسكرية خاصة مثل فاغنر، ومصالح اقتصادية في البنية التحتية والنفط، ما سمح لها بالبقاء طرفًا في المعادلة رغم عدم امتلاكها لحليف مركزي شرعي".
ومن بين جميع القوى التي كانت تنفرد بتأثير واسع داخل سوريا، تبدو روسيا اليوم الطرف الأكثر تضررًا والأقل قدرة على التكيّف مع التحولات، فقد تراجع نفوذها الأمني، وتبدّدت استثماراتها السياسية التي بنتها على مدى سنوات، دون أن تتمكن حتى الآن من بناء شبكة تحالفات جديدة تحاكي موقعها السابق.
ولهذا يُقرأ الحراك الروسي الأخير كمحاولة للتأكيد بأن موسكو لا تزال حاضرة، وأن التحول السياسي الجاري في سوريا لم يتجاوزها كليًّا، بحسب الباحث عبد الكريم.
وأضاف أن "الواقع على الأرض يشير إلى أن روسيا لم تعد تمسك بالخيوط المركزية كما اعتادت، ما يجعل زيارات من هذا النوع اختبارًا فعليًّا لقدرتها على التأقلم مع مشهد سياسي يتغيّر من دون وصايتها المباشرة".
أما المحلل بيتروف، فيقول إن زيارة الشيباني جاءت كخطوة ضرورية لإدارة علاقة لم تعد مستقرة، فروسيا بحكم ثقلها العسكري السابق وتموضعها الاقتصادي داخل سوريا، ما تزال طرفًا يصعب تجاهله، لكن العلاقة معها لم تعد تُبنى على التوافق، وإنما على موازنة دقيقة بين الضرورة والتحفّظ.
وتابع: "انفتاح دمشق الانتقالية على موسكو من الممكن أن لا يُشير إلى شراكة ناضجة، وإنما إلى محاولة لضبط الإيقاع مع قوة خارجية ما تزال حاضرة ولو أنها لم تعد مهيمنة.. في هذا الهامش، لا تبدو الزيارة خطوة نحو اتفاقات استراتيجية بقدر ما تعكس حذرًا متبادلًا من التورط في التزامات غير مؤكدة".
وإذا كانت موسكو تعتبر قواعدها "عامل استقرار"، فإن الواقع يُشير إلى أنها تمثّل اليوم آخر ما تبقّى من معادلة نفوذ كانت أوسع وأعمق، بحسب مضر عبد الكريم.
وأضاف أن "السؤال المطروح لم يعد متعلقًا بشرعية هذا الوجود، وإنما بمدى استعداد السلطة الانتقالية في دمشق للإبقاء عليه ضمن إطار شراكة طويلة الأمد، أو الدفع تدريجيًّا نحو إعادة التفاوض عليه كعبء استراتيجي يُطالَب الروس بتقليصه أو سحبه".
وفي العمق، لم تقرر روسيا بعد ما إذا كانت تريد أن تُعيد إنتاج تجربة الحليف التابع، أم أنها تُدرك بأن شروط التحالف تغيّرت.
ولهذا فإن موسكو تختبر الآن السلطة الانتقالية السورية من خلال مدى استعدادها لتثبيت مصالح روسية دون شروط معاكسة.
في المقابل، تترقّب السلطة السورية الانتقالية سلوك موسكو، متسائلة عمّا إذا كانت تبحث عن صياغة علاقة جديدة تتناسب مع التحول السياسي، أم أنها تحاول إعادة إنتاج دورها السابق بأدوات قد لا تنسجم مع المرحلة الراهنة.