طوى العراقُ صفحةَ الانتخابات التشريعية التي أفرزت مشهدًا نيابيًا جديدًا سيؤثث التحالفات البرلمانية والسياسية القادمة، وعلى الرغم من تصدّر بعض الوجوه للسباق الانتخابي، فإنّ واقع وطبيعة نظام الحكم في العراق سيعيدان تعريف الفائز في هذا الاستحقاق الانتخابي السادس منذ 2003.
وحقق ائتلاف "الإعمار والتنمية" بزعامة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني فوزًا كبيرًا، بحصده 45 مقعدًا نيابيًا – في انتظار إعلان النتائج النهائية – فيما حل ائتلاف "دولة القانون" بقيادة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي ثانياً بحصده 30 مقعدًا.
وحصل "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بزعامة مسعود البارزاني على 27 مقعدًا، ومثله حزب "تقدم" بقيادة محمد الحلبوسي، وحصدت كتلة "صادقون" بزعامة قيس الخزعلي 26 مقعدًا، ونالت حركة "بدر" 19 مقعدًا، وحصل تحالف "قوى الدولة "برئاسة عمار الحكيم على 18 مقعدًا.
وتتوزع المقاعد المتبقية على أكثر من كتلة وائتلاف وحزب في البرلمان، الذي يتكوّن من 329 مقعدًا، وفق النتائج الأولية للانتخابات، والتي قد تشهد تغيّرًا طفيفًا في توزيع الحصص والمقاعد النيابية.
وحقق محمد شياع السوداني فوزًا كاسحًا، منح ائتلافه صدارة الأحزاب المشاركة في الانتخابات بحصوله على مليون و317 ألف صوت انتخابي.
وتؤكد الجهات الانتخابية العراقية أن طرفين اثنين فقط تجاوز خزانهما الانتخابي عتبة المليون صوت، وهما "ائتلاف الإعمار والتنمية" للسوداني، و"الحزب الديمقراطي الكردستاني" الذي اكتسح صناديق الاقتراع في إقليم كردستان، حيث صوّت له مليون ومائة ألف ناخب وناخبة.
ويرى مراقبون أن الناخبين العراقيين منحوا الثقة السياسية للسوداني لقيادة الولاية الثانية، بعد نجاحه في تحقيق أهم المطالب الخدمية المعيشية وتمكنه من إيجاد معادلة سياسية للتعامل مع الإكراهات الإقليمية والدولية، جنبت العراق ويلات التدخل الإقليمي والارتهان للقرار الإيراني.
وتبرهن النتائج الحاصلة على صحة هذا الحكم، إذ نجحت حكومة السوداني – إلى حدّ معين – في تأمين الخدمات الأساسية للمواطن، وفي تركيز مشاريع البنى التحتية، الأمر الذي رسخ صورة "رجل الدولة" لدى الرأي العام العراقي، في مقابل صورة "رجل الأجندات السياسية والإقليمية" التي تعلقت برؤساء الحكومات السابقين.
وتمكنت حكومة السوداني – نسبيًا – من النأي بالعراق عن التجاذبات الإقليمية، وخاصة عن الارتهان للقرار الإيراني الذي سعى إلى تطويع العراق لأجنداته وتحويله إلى حديقة خلفية لطهران.
وكان أداء الحكومة خلال الحرب الإيرانية الإسرائيلية الأخيرة مقبولًا محليًا، ولم ترضخ حكومة السوداني لمطالب بعض الأطراف السياسية بالانحياز الأعمى والمطلق لطهران.
وحافظت في المقابل حكومة السوداني على مسافة معتبرة من واشنطن ومن الأجندات الإسرائيلية في المنطقة، الأمر الذي عزز من استقلاليتها لدى الرأي العام المحلي.
وترجع المصادر العراقية نجاح ائتلاف السوداني في الانتخابات إلى قدرته على استقطاب كفاءات وطنية وقوى سياسية مستقلة من خارج "الصندوق الشيعي" الكلاسيكي، وهو معطى مهم في ظل هيمنة الوجوه نفسها على المشهد السياسي في العراق.
ورغم فوزه بثقة الناخبين العراقيين، إلا أن اعتباره رابحًا في هذا الاستحقاق الانتخابي مغلف بالكثير من المعوقات والعراقيل، أهمها "الفيتو" الصريح الذي ترفعه ضده تكتلات سياسية شيعية موالية لإيران.
وبحسب مصادر عراقية خاصة، فإن "الإطار التنسيقي"، والذي يضم الأحزاب والكتل الشيعية الموالية لطهران، لا يضع محمد شياع السوداني ضمن قائمة المرشحين لرئاسة الحكومة القادمة.
وتضيف مصادر مطلعة أن "الإطار التنسيقي" عقد اجتماعًا موسعًا الليلة قبل الماضية لبحث الخيارات والشروط الممكنة لتشكيل الحكومة، وقد رفضت قياداته بشكل قطعي تجديد الولاية الثانية للسوداني، أو تقديم اسم توافقي من داخل ائتلاف "الإعمار والتنمية" لرئاسة الحكومة.
وتكشف المصادر الخاصة أن حظوظ السوداني – ومن ورائه ائتلاف "الإعمار والتنمية" – في رئاسة الحكومة ضعيفة، حتى الآن على الأقل، وأن أسماء أخرى – لم تحظَ بأية مشروعية أو شعبية تصويتية – ظهرت على السطح.
وبرز من تلك الأسماء علي الشكري رئيس "هيئة المستشارين والخبراء" في الرئاسة العراقية، وأحمد المبرقع وزير الشباب والرياضة الحالي، وعبد الحسين عبطان وزير الشباب والرياضة الأسبق، والنائب عن "دولة القانون" عثمان الشيباني، والنائب عن تحالف "أبشر يا عراق" في مدينة البصرة مصطفى سند.
ويعود هذا الموقف المتحفظ من "الإطار التنسيقي" تجاه السوداني بالنظر إلى مواقفه الاستقلالية والنقدية حيال النفوذ الإيراني، ولحصول أعضاء "التنسيقي" مجتمعين – دون "الإعمار والتنمية" – على نحو 90 مقعدًا، ما يمكّنهم حسابيًا من إجراء مشاورات أخرى مع الكتل النيابية الأخرى لتشكيل الحكومة.
وتؤكد مصادر قريبة من "التنسيقي" أن بعض القوى السياسية الشيعية بدأت باستقطاب نواب "الإعمار والتنمية" قصد إحداث انشقاق هيكلي داخل الائتلاف وإفقاده الغالبية الكاسحة التي يحوزها في البرلمان.
وفي قراءة لواقع القوى الشيعية القريبة من إيران، يتضح أنها لم تستغل غياب التيار الصدري في هذه الانتخابات البرلمانية، ولم تستثمر الخزان الانتخابي الصدري (37 مقعدًا في 2021) الذي تشظى على أكثر من قوة سياسية شيعية.
وفشل ائتلاف "دولة القانون" بقيادة نوري المالكي في استثمار هذا الغياب، بل على العكس تقلص عدد مقاعده من 33 مقعدًا في 2021 إلى 30 مقعدًا في 2025.
ولم يتقدم ائتلاف هادي العامري "منظمة بدر" – بعد أن كان "الفتح" في 2021 – سوى بمقعدين فقط (من 17 إلى 19 مقعدًا)، على الرغم من وطأة الخطاب الطائفي وتوظيف الشعارات الدينية وغياب التيار الصدري.
وبلغة الأرقام، يعدّ تحالف "قوى الدولة" بقيادة عمار الحكيم و"عصائب أهل الحق"، الرابحان الأبرزان، حيث قفز الأول من 4 مقاعد في 2021 إلى 18 مقعدًا في الانتخابات الحالية، فيما حاز الثاني 26 مقعدًا بعد أن كان في حدود 5 مقاعد برلمانية في 2021.
ويشكل "ائتلاف دولة القانون" و"عصائب أهل الحق" و"منظمة بدر" و"تحالف قوى الدولة" القوة السياسية الضاربة للإطار التنسيقي، حيث يمثلون مجتمعين كتلة نيابية من 90 مقعدًا، وقد شرعوا في مشاورات واسعة للتفاهم على رئيس للحكومة من خارج ائتلاف الإعمار والتنمية.
وفيما يخص القوى السنية، فإن تحالف "تقدم" بزعامة محمد الحلبوسي ما يزال محافظًا على ثقل نيابي وازن، يؤهله لخوض مشاورات ومفاوضات من باب القوة مع الفرقاء السياسيين الآخرين.
وتشير التقديرات السياسية إلى أن التصويت السني في هذه الانتخابات تمحور حول شخصية الحلبوسي، ما يشير إلى حاجة الشارع السني إلى شخصية قيادية واحدة، الأمر الذي يفسر التصويت العقابي لبعض الشخصيات السياسية السنية الأخرى التي مُنيت بهزيمة ثقيلة في الانتخابات.
ووضع الشارع السني ثقته وثقله وراء الحلبوسي، رغم بعض الانتقادات التي وجهت لأدائه في رئاسة مجلس النواب خلال السنوات الماضية.
وفشل رئيس البرلمان السابق محمود المشهداني، والأسبق سليم الجبوري، والنائبان ليث الدليمي ويحيى المحمدي، ووزير الثقافة أحمد الفكاك، والنائب والوزير السابق فلاح الزيدان، والنائب شعلان الكريم، وغيرهم في الحصول على أيّ مقعد نيابي.
في إقليم كردستان العراق، تقاسم الحزبان الكرديان التاريخيان "الحزب الديمقراطي الكردستاني" برئاسة مسعود بارزاني، و"الاتحاد الوطني الكردستاني" – حزب الراحل جلال طالباني – النفوذ في الإقليم، مع أفضلية واضحة للأول على الثاني.
وحصل "الديمقراطي الكردستاني" على 27 مقعدًا، فيما حصل "الوطني الكردستاني" على 17 مقعدًا، مسجلًا تراجعًا واضحًا في معقله بالسليمانية.
وشهدت الانتخابات صعود قوى كردية جديدة، على غرار تحالف "الموقف الجديد" الذي حصد 5 مقاعد نيابية، واحتل المركز الثاني في السليمانية والثالث في أربيل (معقل الديمقراطي الكردستاني).
في مقابل كل ما سبق، تتفق القراءات السياسية للانتخابات البرلمانية العراقية على أن الخاسر الأكبر يكمن في القوى السياسية المدنية المنبثقة من "احتجاجات تشرين"، والتي خسرت وجودها النيابي بعد أن كانت تتمتع بكتلة وازنة تناهز 60 مقعدًا نيابيًا وفق بعض التقديرات.
وجاء في بيان صادر عن "مركز النخيل للحقوق والحريات السياسية" أنه "يتابع بقلق بالغ التوليفة البرلمانية المرتقبة، بعد مغادرة أكثر من 60 نائبًا بين مستقلين أو ضمن كتل سياسية تؤمن بالحريات في البرلمان الخامس، وخلو البرلمان الجديد من التوجهات والأحزاب المدنية، وصعود شخصيات طالما استخدمت حق التقاضي كأداة لإسكات الرأي الآخر، مستندة إلى قوانين ذات نصوص فضفاضة".
ووفق البيان، فإن النتائج الأولية للانتخابات تظهر "هيمنة واضحة لأحزاب عقائدية، وعودة صعود أحزاب عرفت بملاحقة الحريات الشخصية والفعاليات المدنية ومنعها، ما يدفع إلى مخاوف من أن تتسم الدورة البرلمانية وما ستنجبه من حكومة، بكونها دورة الترهيب بأدوات مختلفة، أهمها تشريع قوانين تقيّد حرية الصحافة والتعبير والتجمعات المدنية، مستغلةً خلو البرلمان من النواب والكتل القريبة من النشاط المدني والمؤمنة بالحريات العامة".
من جهته، اعتبر "الحزب الشيوعي العراقي" أن نتائج الانتخابات تعكس هيمنة المال السياسي واستغلال النفوذ.
وجاء في بيان اللجنة المركزية للحزب أنها "المرة الأولى منذ عام 2003 التي يُقصى فيها الصوت المدني على هذا النحو الواسع من البرلمان، في مؤشر خطير على طبيعة البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي جرت فيها الانتخابات".
وأكد الحزب أن "هذا الإقصاء لا يستهدف حزبًا بعينه، بل يضرب جوهر العملية الديمقراطية نفسها، التي تحولت بفعل منظومة المحاصصة والفساد إلى ديمقراطية شكلية مفرغة من مضمونها، ويقوض حضور القوى المدنية الديمقراطية التي تدافع عن بناء دولة المؤسسات".