تتبدل الخرائط داخل غزة بوتيرة لا تتيح للوقائع أن تستقر على شكل واحد، فالميدان الذي شهد خلال الأشهر الماضية أقصى درجات الانكشاف العسكري يتحوّل اليوم إلى مساحة تُعاد صياغتها تحت وطأة الترتيبات المؤقتة التي خفّضت مستوى العمليات المباشرة، دون أن تعني نهاية كاملة للأنشطة العسكرية.
وفي هذا الفراغ تتقدم على الأرض ترتيبات جديدة تبدو أقرب إلى محاولة إعادة تعريف حدود الحركة والتمركز داخل القطاع، فالتحول الجاري يظهر كمرحلة مختلفة تتشكل فيها أنماط جديدة للسيطرة، وتترافق فيها أدوات الهندسة الميدانية مع حسابات أمنية معقدة، في مشهد يفرض إعادة قراءة طبيعة الحيّز الذي يفصل بين غزة وحدودها الشرقية.
وتشير المعلومات التي حصل عليها "إرم نيوز" من مصدر غربي مطّلع، إلى أن التحركات الإسرائيلية الجارية شرق "الخط الأصفر" تتجه نحو تثبيت نطاق فصل داخل قطاع غزة بعمق يقترب من 3 كيلومترات، وذلك من خلال عمليات تجريف واسعة، ونسف مبانٍ، واستحداث نقاط مراقبة على مرتفعات تشرف على محاور الحركة الرئيسية.
وتظهر المعطيات أن النشاط العسكري في المناطق المحاذية للخط الأصفر أصبح يستهدف إعادة تشكيل المجال الأمني داخل القطاع. ففي محيط غزة وخان يونس وشمال القطاع، تتواصل عمليات تسوية الأراضي وفتح مساحات مفتوحة تسمح بكشف الحركة وضبطها على نحو أوسع مما كان عليه الوضع قبل الحرب.
وفي هذا السياق، يجري العمل على توسيع الحزام الممتد شمالاً وجنوباً ضمن مناطق كانت سابقاً قابلة للسكن، لكنها تشهد اليوم نشاطاً متكرراً يشمل التجريف ونشر وحدات تتحرك بنمط متبدّل بين التقدم والتراجع، ما يترك أثراً واضحاً على إمكانية عودة السكان إليها خلال المدى القريب.
ويبرز شارع صلاح الدين كأحد العناصر الأساسية في ملامح هذا التحول. فالسيطرة على أجزاء منه، أو تطويق مساره، تمنح القوات الإسرائيلية قدرة أكبر على التحكم بالحركة بين شمال القطاع وجنوبه.
وتُظهر أعمال التجريف والانتشار في محيط شارع صلاح الدين أن الشارع بات يشكّل حداً عملياً لمنطقة الفصل في المواقع الأكثر حساسية، وخصوصاً في واجهات غزة وخان يونس.
ومع استمرار العمليات حول هذا المحور، تصبح العودة المدنية إليه أكثر تعقيداً، نظراً لما ترتب على النشاط العسكري من تغييرات في البنية المحيطة، وتدمير مساحات واسعة من العمران الذي كان يشكل امتداداً سكانياً كثيفاً قبل الحرب.
في المقابل، أفاد مصدر دبلوماسي ألماني مطّلع على المتابعات الميدانية في غزة، بأن الإجراءات الإسرائيلية الجارية شرق الخط الأصفر "تجاوزت نطاق الاحتياجات الأمنية المباشرة، وأصبحت تمثل توجهاً يعيد تشكيل المجال داخل غزة بصورة ستترك آثاراً طويلة المدى".
وأشار خلال حديثه لـ"إرم نيوز" إلى أن عمليات التجريف الواسعة وفتح الممرات "تتقدم بوتيرة لا يمكن فصلها عن محاولة خلق واقع جديد يصعب التراجع عنه لاحقاً".
وأضاف المصدر أن "التحكم بالمرتفعات وإعادة توزيع نقاط الإشراف يمنح إسرائيل تفوّقاً واضحاً، لكنه يخلق في الوقت نفسه فراغاً مدنياً واسعاً يضعف فرص استعادة الاستقرار".
ورأى أن هذا المسار "لا يخلو من إشكاليات، لأنه يحدّ عملياً من قدرة السكان على العودة إلى مناطقهم، حتى في ظل ترتيبات التهدئة الحالية".
وأضاف أن ما يجري على الأرض "لا يبدو خطوة ظرفية مرتبطة بتراجع العمليات العسكرية فحسب، إنما يعبّر عن توجه يهدف إلى ضبط الحركة في نطاق أوسع داخل القطاع، خصوصاً في المناطق التي يصعب فيها استئناف الوجود المدني خلال المدى القريب".
كذلك تكشف المعلومات عن أهمية المرتفعات الجغرافية في التوجه القائم، فقد أُعيد تعزيز نقاط مراقبة قائمة واستحداث أخرى جديدة على مواقع مثل جبل الصوراني شرق حي التفاح، وتلة المنطار المطلة على أحياء واسعة من غزة، إضافة إلى تلة الظهرة شرق خان يونس التي باتت تشرف على جزء كبير من المدينة.
وتوفر هذه المرتفعات قدرة على متابعة الحركة داخل العمق دون وجود دائم على الأرض، بما يسمح بتثبيت نطاق واسع تُضبط داخله الحركة وتُراقَب الممرات، مع إمكانية التدخل عند الحاجة عبر وحدات مدرّبة على التحرك السريع.
وتشير المعلومات إلى أن القوات الإسرائيلية تعتمد نمطاً متكرراً يقوم على التقدم المحدود ثم الانسحاب التكتيكي، بما يتيح توسيع المساحات المكشوفة وترك بيئة يصعب استئناف الحياة المدنية فيها فوراً. ويُعدّ هذا الأسلوب أحد أبرز المؤشرات على الاتجاه نحو ترسيخ حزام يفصل بين "الخط الأصفر" والمناطق الداخلية، دون الحاجة إلى إعلان رسمي أو وجود دائم.
وتظهر الصورة العامة بناءً على المعلومات المتاحة أن عمقاً أمنياً جديداً يتشكل تدريجياً داخل غزة، يمتد من مستوطنات الغلاف حتى محيط شارع صلاح الدين في بعض المواقع، ويعتمد على مزيج من توسيع المساحات المفتوحة، وإعادة رسم محاور الحركة، والسيطرة على المرتفعات، والحفاظ على نمط التقدم والتراجع لاستبقاء المنطقة خالية من الوجود المدني المنتظم.
هذا الحيز الجديد، كما تؤكده الوقائع الميدانية، يتجه ليكون منطقة فصل واسعة داخل القطاع، تختلف جذرياً عن المنطقة العازلة التي كانت قائمة قبل الحرب، سواء من حيث العمق أم من حيث الأدوات المستخدمة لتثبيتها.
ويرى الباحث السياسي الفلسطيني، يسري السراج، خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أنّ التحركات الجارية شرق "الخط الأصفر" تكشف انتقالاً إلى مرحلة يصاغ فيها المجال الأمني داخل غزة بصورة مختلفة عمّا كان سائداً قبل الحرب.
ويشير إلى أنّ عمليات التجريف وفتح المساحات، إلى جانب الانتشار المتحرك في نقاط محددة، تتيح لإسرائيل بناء نطاق فصل فعلي داخل القطاع، يستند إلى إعادة تشكيل الأرض أكثر مما يستند إلى تمركز ثابت.
ويعتبر السراج أنّ هذا التحول يترك أثراً مباشراً على البنية المدنية، لأن المناطق التي يجري تعديلها ميدانياً يصعب أن تستعيد وظيفتها السكنية أو الخدمية بسرعة، ما يجعلها عملياً جزءاً من الحيّز الأمني الجديد. لافتاً إلى أنّ السيطرة على المرتفعات وتعديل محاور الحركة، تشكّل عناصر حاسمة في ترتيبات ما بعد وقف إطلاق النار، مهما كان شكل التسوية المقبلة.
ويشدّد السراج على أنّ هذه التطورات لا يمكن فهمها فقط بوصفها إجراءات أمنية آنية، لأن طريقة توزيع المواقع والإشراف على المساحات الواسعة تشير إلى توجه سيستمر تأثيره في المدى المتوسط، خصوصاً إذا بقيت هذه المناطق خارج الاستخدام المدني لفترة طويلة.
من ناحيتها، ترى الخبيرة الهنغارية آنا كوفاتش، المتخصصة في إدارة الأزمات والتحولات ما بعد النزاعات، أنّ ما يجري في المناطق المحاذية للخط الأصفر يعكس محاولة لإعادة ضبط العلاقة بين الحدود الشرقية للقطاع والمناطق المدنية الداخلية، عبر صياغة حيّز فصل متعدد المستويات يشمل توسيع المساحات المفتوحة وتعزيز القدرة على الإشراف من مواقع مرتفعة.
وتوضح كوفاتش خلال حديثها لـ"إرم نيوز" أنّ إعادة تشكيل الأرض بهذه الطريقة تُنتج واقعاً عملياً لا يحتاج إلى إعلان رسمي لكي يؤثر في طبيعة الحياة داخل غزة، مشيرةً إلى أنّ المرحلة الحالية تتميز بتداخل بين وقف إطلاق النار وبين استمرار عمليات هندسية وأمنية تؤثر مباشرة على إمكان عودة السكان إلى محيط الخط الأصفر.
وتَعتبر أنّ هذا التداخل سيترك أثره في جهود الإغاثة وإعادة الإعمار، لأن وجود نطاق يصعب استعادته مدنياً في المدى القريب سيؤثر في توزيع الكثافة السكانية وفي طبيعة الممرات التي ستظل قابلة للاستخدام.
وتؤكد كوفاتش أنّ مراقبة التحولات الجارية حول شارع صلاح الدين والمرتفعات المجاورة له تُعدّ مفتاحاً لفهم الاتجاه العام لهذه الترتيبات، لأن السيطرة على هذه المحاور تمنح قدرة واسعة على تنظيم المجال الأمني، وتحدد الإطار الذي ستتحرك في داخله العملية السياسية في مراحلها اللاحقة.