يأتي طرح رئيس الجمهورية اللبنانية جوزيف عون لفكرة التفاوض غير المباشر مع إسرائيل في لحظة بالغة الحساسية؛ فالجنوب اللبناني يعيش توتراً مفتوحاً، والتهديدات الإسرائيلية تتصاعد على وقع خطاب يتحدث عن "توسيع الحرب" ضد ميليشيا "حزب الله"، فيما يمرّ لبنان بمرحلة جمود سياسي وانكفاء دبلوماسي، يتخوف فيها المراقبون من أن تكون قد تراجعت فيها قدرة الدولة على المبادرة.
في هذا السياق، يبدو تحرك الرئاسة أشبه بمحاولة لاستعادة المبادرة، فالرئيس يسعى إلى تأكيد أن الدولة ما زالت تمتلك أدواتها، وأن التفاوض، وإن كان غير مباشر، يمكن أن يتحول إلى مساحة لإعادة تعريف السيادة اللبنانية من داخل المؤسسات.
وتقول مصادر دبلوماسية لـ"إرم نيوز"، إن فكرة التفاوض لم تولد في القصر الجمهوري فقط، وإنما جرى تداولها ضمن قنوات عربية ضيقة تدخلت خلال الأسابيع الأخيرة على خط التهدئة بين لبنان وإسرائيل.
الاقتراح، كما تفيد هذه المصادر، يقوم على فتح قناة "تقنية" عبر اللجنة الدولية لمراقبة وقف إطلاق النار، المعروفة باسم "الميكانيزم"، لتفعيل دورها في معالجة الملفات الحدودية والنقاط العالقة.
الولايات المتحدة تتابع هذا المسار عن قرب، دون إعلان رسمي حتى الآن. وتنتظر بيروت وصول السفير الأمريكي الجديد ميشال عيسى، الذي يُتوقع أن يحمل تصوراً إسرائيلياً أولياً للرد على المقترح اللبناني. وفي خلفية هذا التواصل، رغبة أمريكية واضحة في منع انفجار شامل على الجبهة الشمالية قد يجرّ المنطقة إلى مواجهة مفتوحة.
وفي حديث خاص لـ"إرم نيوز"، قال مصدر سياسي لبناني مطّلع على مسار الاتصالات الجارية إن "ما تطرحه الرئاسة اليوم عودة إلى منطق الدولة الذي تم تعطيله لعقود بفعل احتكار ميليشيا حزب الله لمساحات القرار الأمني والاستراتيجي خارج المؤسسات".
وأضاف المصدر، أن "رفض ميليشيا حزب الله العلني لأي تفاوض غير مباشر لا يُترجم عملياً على الأرض، خصوصاً أن الحزب سبق أن وافق على مفاوضات الترسيم البحري، بل وكان جزءاً من هندستها الخلفية، ويدرك تماماً أن لا مصلحة للبنان في إبقاء الحدود الجنوبية رهينة الحسابات الإقليمية".
وشدد على أن "المبادرة الرئاسية لا تستبطن أي بعد سياسي أو تطبيعي، فهي تنطلق من واجب حماية لبنان من الانزلاق إلى مواجهة واسعة". معتبراً ما يجري محاولة لتثبيت وقف إطلاق النار ضمن الآليات الدولية الموجودة، وهو ما يندرج ضمن مسؤوليات الدولة.
وأشار المصدر إلى أن الرئاسة حرصت على صياغة المبادرة بلغة دقيقة تحترم الحساسيات الداخلية، ولا تسمح لأي طرف بتأويلها كخطوة تطبيعية أو تخلٍ عن المبادئ، مضيفاً: "عدة جهات إقليمية تواكب هذا المسار نقلت إشارات إيجابية من عدة أطراف دولية، لكن الجميع ينتظر ما إذا كان لبنان سيُثبت أنه قادر على إدارة ملف سيادي ضمن مؤسساته، أم أنه سيبقى أسير التوازنات غير الرسمية".
وعن الموقف الإسرائيلي، قال المصدر إن "الرد الرسمي لم يصدر بعد، لكن المعلومات الأولية التي نُقلت عبر قنوات دبلوماسية أمريكية توحي بأن تل أبيب لا تعارض إعادة تنشيط "الميكانيزم"، شرط أن تبقى العملية مضبوطة بسقف أمني وتقني صارم، من دون توسع في التمثيل أو تدويل مبالغ فيه".
وتابع المصدر: "ما يطرحه الرئيس هو إعادة تنظيم للمسؤوليات. فحين تبادر الدولة، يُفترض أن تُعطى المساحة كاملة لإدارة الملف، لا أن يُفرض عليها أن تنسق مع طرف لا يعترف أصلاً بشرعية مؤسساتها الدستورية في هذا النوع من القضايا".
وختم بالقول: "هناك قناعة بدأت تتشكل لدى عدة عواصم بأن الحزب يستخدم ملف المواجهة مع إسرائيل كأداة داخلية للحفاظ على موقعه، والسكوت عن ذلك لم يعد ممكناً إذا أراد لبنان أن يقدّم نفسه شريكاً جدياً في الاستقرار الإقليمي".
في حين قال مصدر دبلوماسي غربي مطّلع على المشاورات الأوروبية بشأن الملف اللبناني، إن الطرح الذي تقدّمت به رئاسة الجمهورية اللبنانية بشأن التفاوض غير المباشر مع إسرائيل يُنظر إليه في العواصم الأوروبية كخطوة مسؤولة، تمثل نضجاً سياسياً في التعامل مع الواقع الإقليمي المشتعل، وتعيد وضع الدولة اللبنانية في موقع الفعل، بعد سنوات من الجمود والتهميش الذاتي.
وأوضح المصدر أن "المبادرة تحمل مقومات النجاح لأنها تنأى بنفسها عن أي مضمون تطبيعي أو سياسي مباشر، وتركّز على آلية تقنية دولية قائمة بالفعل، مما يمنحها شرعية أممية ويُبعد عنها الشبهات التي عادةً ما تُستخدم محلياً لإفشال مثل هذه المسارات".
وأضاف: "من منظور أوروبي، ما قامت به الرئاسة اللبنانية يُعيد تسليط الضوء على ضرورة التمييز بين التفاوض كأداة حماية للحدود والسيادة، وبين التطبيع الذي يظلّ خياراً سياسياً سيادياً معقّداً. الأوروبيون يدعمون أي مبادرة تساهم في خفض التصعيد وعودة المؤسسات الرسمية إلى واجهة القرار".
وأشار المصدر إلى أن "الدوائر الأوروبية تابعت بقلق مسار التصعيد الأخير على الجبهة الجنوبية، وتعتبر أن الفشل في تحصين الساحة اللبنانية سيجعل من لبنان الحلقة الأضعف في سلسلة المواجهات الإقليمية. من هنا، يأتي الدعم غير المعلن لمبادرة الرئاسة، بوصفها محاولة لمنع تفكك الهيكل السيادي للدولة".
وكشف المصدر أن الأوروبيين يراقبون من كثب ما إذا كانت الدولة اللبنانية قادرة على تثبيت هذا المسار، أم أنها ستتراجع تحت ضغط داخلي. "هناك تساؤلات حقيقية تُطرح في باريس وبروكسل حول مدى استعداد النخبة السياسية اللبنانية لتبنّي خيارات واقعية تحمي البلاد من الانزلاق إلى دور الملحق في صراعات إقليمية لا طائل لها".
وشدّد المصدر على أن "استمرار احتكار ميليشيا حزب الله لملف المواجهة مع إسرائيل يُضعف موقف لبنان أمام المجتمع الدولي. والمفارقة أن بعض الجهات الدولية، ومنها دول أوروبية، أصبحت ترى في سلوك الحزب عائقاً أمام تثبيت وقف النار أكثر منه ضمانة له".
وتابع: "نحن نرى أن المبادرة الرئاسية يمكن أن تُشكّل فرصة لإعادة توزيع أدوار السلطة بطريقة أكثر توازناً، تُعيد الاعتبار إلى المرجعيات الدستورية دون استفزاز أحد".
وختم المصدر بتأكيد أن "أوروبا لن تتدخل في صياغة التفاوض أو في تركيبته، لكنها مستعدة لتقديم دعم فني وتقني عبر المؤسسات الدولية المختصة، إذا ما طُلب منها ذلك رسمياً من جانب الحكومة اللبنانية. أما غياب المبادرة، فسيدفع المانحين أكثر فأكثر نحو التخلي التدريجي عن لبنان كمشروع قابل للاستقرار، وهو أمر بدأنا نلمس ملامحه بالفعل في بعض الدوائر الدبلوماسية".
الباحث اللبناني مروان رعد، المتخصص في النظم السياسية والهندسة الدستورية، يرى أن ما طرحه رئيس الجمهورية هو في جوهره تصحيح لمسار طويل من تآكل وظيفة الدولة في إدارة الملفات السيادية، وعلى رأسها العلاقة مع إسرائيل.
ويؤكد رعد خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن "المشكلة الحالية تتمثل في البيئة السياسية التي تُطلق ضمنها. فالدولة اللبنانية منذ اتفاق الطائف، عاشت ازدواجية خطيرة في مقاربة ملفات الأمن الخارجي، حيث أُعطيت قوى الأمر الواقع مساحة نفوذ مستقلة خارج الرقابة المؤسساتية. وما يجري اليوم هو محاولة خجولة لكنها ضرورية لاستعادة التوازن".
ويضيف أن "رفض حزب الله لهذا الطرح لا يعكس موقفاً مبدئياً بقدر ما يعكس خشية من أن تنجح الدولة في استعادة زمام المبادرة في ملف كان الحزب يعتبره خطاً أحمر. فلو كانت المسألة تتعلق فقط بالمضمون، لكان الحزب قد عارض مفاوضات الترسيم البحري التي جرت بالشروط ذاتها تقريباً".
ويحذّر رعد من أن "تكرار تجربة التعطيل سيؤدي إلى ترسيخ منطق الدويلة داخل الدولة، ويحوّل مؤسسات الحكم إلى مجرد أدوات لتغطية خيارات أحادية".
ويختم قائلاً: "إذا فشلت المبادرة هذه المرة أيضاً، فإننا نكون أمام لحظة جديدة من لحظات إضعاف الدولة، بسبب حسابات الداخل التي تُبقي السيادة مُجتزأة ووظيفية".
إيثان بارلو، المحلل الأمريكي المتخصص في السياسة الخارجية والأمن غير التقليدي في الشرق الأوسط، يَعتبر خلال حديث لـ"إرم نيوز" أن التحرك اللبناني الأخير ينسجم مع منطق التهدئة الذكية، وقد يفتح قناة تفاوض فعالة بشرط كسر جمود الداخل.
ويرى بارلو أن ما تطرحه الرئاسة اللبنانية يشكّل "إشارة نادرة إلى أن هناك في بيروت من لا يزال يفكّر من داخل الدولة". مضيفاً: "هناك نظرة إيجابية للمبادرة في دوائر السياسة الخارجية الغربية، لأنّها تُعبّر عن محاولة لخلق مسار تفاوضي محدود، مضبوط تقنياً، ويمكن البناء عليه لاحقاً".
ويضيف: "التحرك اللبناني الأخير لا يعني انقلاباً على قواعد الاشتباك، وإنما محاولة لضبطها. في واشنطن وأوروبا هناك إدراك متزايد بأن حزب الله لا يعارض من حيث المبدأ أي تفاوض، بل يريد أن يُمسك بكل مفاتيحه، وهذا أمر لم يعد قابلاً للاستمرار في ظل الانكشاف اللبناني الكامل على الانهيار الاقتصادي والتوتر الإقليمي".
ويرى بارلو أن النموذج الذي تسعى الرئاسة اللبنانية إلى استنساخه أقرب إلى التنسيق الأمني الذي تجريه بعض دول المنطقة مع إسرائيل عبر وسطاء دوليين، دون أن يؤدي ذلك إلى أي تطبيع أو حتى اتفاقات علنية. وهذا، في نظر العواصم الغربية، "خيار واقعي، وعملي".
ويختم قائلاً: "إذا استطاعت بيروت، من خلال الرئاسة، أن تُفعّل قناة الميكانيزم الدولية، وتربطها بملف الحدود تحت سقف التهدئة، فإن هذا سيمثّل إنجازاً فعلياً للدولة اللبنانية. لكن الخطر يبقى داخلياً، من منطلق أن كل مبادرة بلا غطاء داخلي صلب ستُفشلها لعبة التعطيل المعتادة".
يُدرك الرئيس عون أن ميزان القوى الداخلي قد لا يسمح بطرح تفاوض مباشر أو سياسي؛ لذلك صاغ مقاربته في إطار "تقني" يستند إلى اللجنة الدولية لمراقبة تنفيذ وقف النار، المعروفة بـ"الميكانيزم". هذا الطرح، وإن بدا إجرائياً، يحمل في طيّاته محاولة لإعادة تثبيت حضور الدولة في الميدان الأمني دون الاصطدام مباشرة مع ميليشيا "حزب الله".
على المستوى الخارجي، تؤكد مصادر سياسية أن اتصالات لبنانية–أمريكية مستمرة منذ أسابيع في هذا الملف، من أجل إعادة تفعيل قنوات التهدئة بين بيروت وتل أبيب. وتنتظر بيروت وصول السفير الأمريكي الجديد ميشال عيسى حاملاً موقفاً إسرائيلياً أوّلياً من فكرة استئناف التفاوض التقني عبر "الميكانيزم"، في محاولة لتفادي التصعيد على الحدود وتفكيك النقاط العالقة بين الطرفين.

في قراءة الرئاسة اللبنانية، لا يُفترض بالمسار المقترح أن يُفهم كخطوة تطبيعية بالضرورة، بقدر ما يمكن أن يكون إجراء ضروريا لتثبيت وقف النار وتخفيف المخاطر على الجبهة الجنوبية.
ومع ذلك، يبقى الجدل الداخلي حاضراً حول إذا ما كانت تستطيع الدولة، أن تقود مفاوضات من هذا النوع بصفة مستقلة، أم أن "الميكانيزم" سيصبح إطاراً محدود الصلاحيات، يضمن الهدوء دون أن يعيد الاعتبار إلى مؤسسات الدولة؟