منذ سقوط النظام السوري، قبل نحو سنة، لم يهدأ النقاش حول مصير السوريين في ألمانيا، والبالغ عددهم ما يقارب المليون، وصلت غالبيتهم في 2015، إبان سياسة "الباب المفتوح" التي اتبعتها برلين خلال حكم المستشارة السابقة أنجيلا ميركل.
وفي ظل هذا الجدل المتواصل بشأن هذا الملف، في الإعلام والبرلمان والفضاء العام، برزت انقسامات بشأن كيفية التعاطي مع ملف السوريين.
وتأرجحت الرؤى بين من يطالب بترحيلهم، وآخرون يفضلون بقاءهم، فيما يرى البعض ضرورة التسريع في تجنيسهم والسعي لإدماجهم في سوق العمل، وثمة من يطالب بوقف تجنيسهم وتشجيعهم على العودة الطوعية إلى بلادهم.
يشار إلى أن إجمالي عدد السوريين الذين حصلوا على الجنسية الألمانية حتى نهاية 2023 يزيد على 160,000 شخص، بينما حصل 83,150 سوريًا على الجنسية الألمانية خلال عام 2024.
ووفقًا لبيانات مكتب الإحصاء الاتحادي الألماني، فإن أعداد السوريين الجدد الذين يصلون إلى ألمانيا قد تراجعت إلى ما يقارب النصف منذ سقوط الأسد.
ألمان يرفضون تجنيس السوريين
وفي أحدث السجالات بشأن ملف اللجوء السوري، أظهر استطلاع حديث أجراه معهد INSA-Consulere لصالح صحيفة "بيلد" الألمانية، أن غالبية الألمان تميل إلى وقف تجنيس السوريين، بهدف تشجيعهم على العودة إلى بلادهم.
ووفق النتائج التي نشرها موقع "دويتشه فيله"، فإن 64% من المشاركين يؤيدون تعليق تجنيس السوريين، بينما يرفضه 16% فقط، في حين لم يبدِ 8% رأيًا محددًا، وامتنع 12% عن الإجابة.
وكان متوقعًا أن يسجل أكبر دعم لفكرة رفض تجنيس السوريين بين ناخبي حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف بنسبة 85%، في حين جاء أقل دعم من ناخبي حزب الخضر بنسبة 46%.
تسييس محتمل
ويلاحظ مراقبون أن أرقام الاستطلاع قد تكون "مسيسة"، إذ تثار حول معهد "إنسا كونسلر"، القائم على الاستطلاع، انتقادات بشأن قربه من دوائر حزب البديل اليميني المتطرف، المعادي للهجرة، بشكل عام.
كما أن صحيفة بيلد كذلك التي تتأرجح بين "النهج المحافظ واليميني"، تتخذ عادة خطًا تحريريًا يميل إلى التشدّد في قضايا الهجرة، وتُظهر ذلك بوضوح في تغطيتها المتعلقة باللاجئين السوريين.
وتركز الصحيفة في تغطياتها على المخاوف الأمنية والاقتصادية المرتبطة بتزايد أعداد اللاجئين، وتظهر بشكل متكرر تقارير عن تكاليف اللجوء على الدولة، والجرائم الفردية التي تُعمِّمها أحيانًا لتصوير اللجوء كمعضلة أمنية.
وتدفع تغطيات "بيلد"، وفقًا لخبراء، باتجاه سياسات أكثر صرامة، مثل تشديد شروط التجنيس، وتؤيد، دون لبس، وقف تجنيس السوريين مؤقتًا أو إعادة النظر فيه، مستندة إلى استطلاعات رأي تُظهر غالبية شعبية مؤيدة للتشديد، كما في الاستطلاع الأخير، على سبيل المثال.
وكان وزير الداخلية الألماني ألكسندر دوبرينت قال لمجلة "دير شبيغل" إن السوريين الذين أثبتوا اندماجًا جيدًا ويعملون في ألمانيا ينبغي أن تتاح لهم إمكانية بناء مستقبل داخل البلاد.
وأضاف المسؤول الألماني أن من يفشل في الاندماج والعمل، فإن مستقبله يكون في العودة إلى سوريا.
وأكد دوبرينت أيضًا أن الحكومة ماضية في التحضير لاستئناف الترحيل إلى سوريا، خصوصًا لمرتكبي الجرائم والأشخاص المصنفين خطرين، مشيرًا إلى وجود محادثات جارية بهذا الشأن، دون تقديم المزيد من التفاصيل.
وفي ذات السياق، يواصل المستشار فريدريش ميرتس الضغط باتجاه تنفيذ الترحيل في أسرع وقت، لكن طبعًا وفق ضوابط ومعايير معينة.
وكان وزير الخارجية يوهان فاديفول قد أثار نقاشًا داخل "الاتحاد المسيحي" بعد زيارته لحي مدمر في دمشق، حيث شكك في إمكانية عودة أعداد كبيرة من اللاجئين قريبًا نظرًا لحجم الدمار، لكنه لم يستبعد ترحيل "الحالات الخطيرة جدًا" من مرتكبي الجرائم.
دوافع رفض "التجنيس"
وبمعزل عن "التسييس" وتصريحات النخبة السياسية التي تكشف تباينات بشأن الملف، يرى خبراء أن هناك دوافع وخلفيات اقتصادية وسياسية واجتماعية وأمنية متداخلة تفسّر سبب رفض نسبة كبيرة من الألمان، بحسب الاستطلاع، لتجنيس السوريين.
وتختلف الدوافع بحسب الفئات الاجتماعية، لكنها تشكل رأيًا عامًا معارضًا في غالبيته للتجنيس خصوصا في ظل التداعيات السلبية لملف الهجرة ليس فقط في ألمانيا، بل في أوروبا بصورة عامة.
ويؤكد خبراء أن الدافع الرئيس لرفض التجنيس اقتصادي، فألمانيا تمر بمرحلة تباطؤ اقتصادي، مع ضغط كبير على الميزانية، فضلًا عن أزمة الإسكان، والنقص في الخدمات العامة.
وترى نسبة كبيرة من الرافضين أن منح الجنسية للسوريين سيفاقم الأعباء، ويشكل ضغطًا على البنية التحتية والخدمية والإسكان.
وثمة دافع آخر للرفض، يتمثل في تشجيع السوريين على العوة إلى بلادهم، فبعد السقوط المدوي للنظام السوري، يعتقد جزء من الألمان أن السوريين لم يعودوا بحاجة للحماية وأنهم يستطيعون العودة للمشاركة في إعادة الإعمار، ومن هنا يرفضون منحهم الجنسية لأن ذلك سيجعل فرص العودة ضئيلة.
وفي سياق الحديث عن دوافع الألمان لرفض تجنيس السوريين، لا ينبغي التغافل، وفقًا للخبراء، عن الخطاب الشعبوي التحريضي لحزب "البديل"، الذي أصبح رقمًا سياسيًا مؤثرًا في البلاد، بفضل خطابه المناهض للهجرة.
ولا يتوانى الحزب في أدبياته وبرامجه، كما هو معروف، عن الربط بين الهجرة وبين فقدان الأمن، وتراجع الثقافة الألمانية، والعبء على الرفاه الاجتماعي، وهو ما يجعل فئة من المجتمع متحفظة حيال منح السوريين الجنسية.
ويلفت الخبراء إلى أن التغطية الإعلامية بشكل عام، مثل "بيلد" وغيرها من المنابر الإعلامية، التي تركز على الجرائم الفردية وحالات التطرف وصعوبات الاندماج، وتغيير الهوية الثقافية للبلاد، وقيمها المنفتحة التي تتعارض مع القيم التقليدية السائدة في المناطق التي قدم منها المهاجرون.
ويرى مراقبون أن مثل هذه التغطية "المتحيزة" تسهم في بلورة رأي عام يعارض التجنيس، لا للسوريين فحسب، بل لجميع المهاجرين الذين يعتبرون، في رأي الرافضين، تهديدًا لقيمهم وأنماط معيشتهم.
ورغم أن الكثير من السوريين حققوا اندماجًا وانخرطوا في سوق العمل، فإن تلك التغطية تبدو قاصرة عن إظهار الإنجازات والتركيز على الجوانب السلبية.
ورغم هذا المزاج الألماني الذي بات يميل إلى رفض التجنيس والمطالبة بترحيل السوريين، فإن ثمة الكثير من العوائق الحقوقية والقانونية والإدارية واللوجستية، تجعل من مسألة الترحيل أمرًا بالغ التعقيد في بلد "بيروقراطي" مثل ألمانيا يحتاج فيه أي تشريع جديد إلى المرور عبر العديد من المراحل قبل الوصول إلى لحظة التنفيذ.