قالت مصادر سياسية وعسكرية لبنانية متقاطعة إن اغتيال رئيس أركان ميليشيا حزب الله هيثم علي الطبطبائي في قلب الضاحية الجنوبية لم يكن مجرد ضربة قاسية في "بنك الأهداف" الإسرائيلي، بل شكل أيضا لحظة كشف نادرة عن شرخ آخذ في الاتساع داخل الحزب نفسه من جهة، وبين الحزب وبيئته الحاضنة من جهة أخرى، حول جدوى استمرار سياسة "الصبر الاستراتيجي" في مواجهة موجة الاغتيالات التي حصدت قادة الصف الأول خلال العامين الماضيين.
وتؤكد المصادر أن الحزب، الذي اعتاد تقديم صورة قيادة موحدة ومتماسكة، يعيش منذ الضربة الأخيرة نقاشات داخلية حادة، وإن بقيت مضبوطة داخل الغرف المغلقة، بين جناح ميداني يعتبر أن إسرائيل باتت تتحكم منفردة بقرار الحرب والسلم، وجناح سياسي – أمني يرفع راية ضبط النفس بحسابات لبنانية وإيرانية معقدة.
قادة الميدان يشعرون بأنهم "مكشوفون"
بحسب المعطيات التي تنقلها مصادر سياسية لبنانية لـ"إرم نيوز"، شكّل استهداف حارة حريك رسالة مباشرة مفادها أن "لا مكان مُحصَّناً بعد اليوم"، وأن الضاحية نفسها تحولت إلى ساحة مفتوحة أمام طائرات الاستطلاع والاغتيال الإسرائيلية؛ ما خلق موجة قلق عارمة لدى القيادات العسكرية التي تتحرك تقليديًا داخل ما يُعرف بـ"الدوائر المُحصَّنة".
مصادر قريبة من الحزب تقول إن هذه الضربة أعادت إلى الأذهان استهداف فؤاد شكر ثم باقي أعضاء "المجلس الجهادي"، ورسخت قناعة لدى عدد من القادة الميدانيين بأن أسماءهم باتت مدرجة تفصيليا في بنك الأهداف الإسرائيلي، خصوصا بعد نشر مواقع عبرية "خرائط للقادة" وما تسرب عبر الإعلام اللبناني عن استخدام تل أبيب لتقنيات تعقب متقدمة لرصد هواتفهم وحركتهم اليومية.
هذا الشعور بالانكشاف الأمني انعكس، بحسب المصادر ذاتها، في نقاشات حادة داخل بعض الوحدات العسكرية وبين كوادر متوسطة العمر، ترى أن استمرار الصمت على "اغتيالات متسلسلة بلا رد" يكسر ما تبقى من معادلة الردع، ويحول القيادات إلى "طابور انتظار للموت"، فيما يطالب هؤلاء بتوجيه ضربة نوعية ومؤلمة داخل العمق الإسرائيلي "لاستعادة شيء من التوازن"، حتى لو حمل ذلك مخاطر توسيع رقعة المواجهة.
جناح "الصبر الاستراتيجي" وحسابات طهران الثقيلة
في المقابل، تكشف مصادر سياسية لبنانية متابعة لملف الحزب أن "الجناح السياسي–الأمني" الممسك بمفاصل القرار، والمرتبط مباشرة بالقيادة الإيرانية، لا يزال يميل بقوة إلى تجنب أي رد كبير يمكن أن يفتح الباب أمام حرب شاملة في لحظة يعتبرها "غير مناسبة" لا للبنان ولا لطهران.
المصادر السياسية اللبنانية تضع هذا التوجه في إطار ثلاثة ضوابط؛ أولها عدم إعطاء واشنطن وتل أبيب ذريعة لجر إيران نفسها إلى مواجهة مفتوحة؛ وثانيها حماية ما تبقى من البنية القيادية والصاروخية في لبنان بعد عام من الاستنزاف؛ وثالثها تفادي انهيار اقتصادي–اجتماعي جديد قد يعجز الحزب عن احتوائه في بلد يقف أصلا على حافة الانفجار.
تشير المصادر المطلعة على قنوات التنسيق بين الحزب وطهران إلى أن رسائل إيرانية وصلت في الساعات التي تلت الاغتيال تشدّد على ضرورة "الرد المحسوب" إن حصل، وربط أي خطوة ميدانية بسقف واضح يمنع الانزلاق إلى حرب طويلة تُستنزف فيها جبهة الجنوب بلا قدرة على التعويض. وهذا ما يفسر، برأي هذه المصادر، الغياب اللافت في بيان نعي الطبطبائي لعبارات تعبئة تقليدية من نوع "الطريق إلى القدس"، والاكتفاء بتوصيفه "شهيدا في الدفاع عن لبنان وشعبه"، في محاولة لحصر الاشتباك داخل الإطار اللبناني.
بيئة حاضنة بين الغضب والخوف
الشرخ لا يتوقف عند حدود الحزب. فبحسب تقارير لبنانية، يتعرض حزب الله لضغط مباشر من بيئته الحاضنة في الضاحية والجنوب والبقاع، حيث بات قسم من الجمهور يطرح بصوت عال السؤال الأكثر إحراجا: "ما جدوى السلاح إذا كان قائد الأركان يُغتال في قلب الضاحية بلا رد؟".
على منصات إعلامية لبنانية، يجري الحديث عن "حملات تخوين واسعة" داخل هذه البيئة؛ جزء منها يهاجم أي صوت شيعي معترض على سياسة الصمت، وجزء آخر يحمّل القيادة مسؤولية تعريض السكان لسلسلة ضربات جوية من دون توفير حماية حقيقية لهم، في ظل أزمة اقتصادية خانقة وتراجع إمكانيات التعويض وإعادة الإعمار كما سبق في 2006.
لكن في المقابل، تكشف استطلاعات رأي ومتابعات ميدانية أن شريحة واسعة من جمهور الحزب لا تزال تخشى من أن يؤدي رد كبير إلى حرب "لن تُبقي ولا تذر"، وتفضل ردا محدودا يحفظ ماء وجه التنظيم من دون إغراق لبنان في جولة تدميرية جديدة، خاصة أن مسار التسويات برعاية دولية لا يزال قائما ولو بصعوبة، وأن جزءا من الطبقة السياسية الشيعية بات يربط مصير الجنوب بمصير الدولة ككل وليس بمصير الحزب وحده.
تسوية داخلية على حافة الهاوية
استنادا إلى هذه التسريبات والمعطيات، ترجح المصادر السياسية والعسكرية اللبنانية أن ينتهي النقاش داخل الحزب إلى "تسوية وسط" بين جناح الميدان وجناح "الصبر الاستراتيجي"، بالذهاب إلى أيام قتال محدودة ومحسوبة، تُنفّذ فيها عملية أو أكثر ضد هدف عسكري أو أمني إسرائيلي، بما يسمح بتنفيس غضب القيادات الميدانية وجزء من البيئة الحاضنة، من دون تجاوز الخطوط الحمراء التي تخشاها طهران.
غير أن هذه المصادر تحذر من أن أي خطأ في الحساب – سواء في طبيعة الهدف أو حجم الخسائر الإسرائيلية – قد يحول هذا الرد المحدود إلى شرارة لجولة أوسع، خصوصا أن إسرائيل، وفق تقديرات لبنانية متقاطعة، تتصرف اليوم كمن يسعى لاختبار حجم الحزب الحقيقي بعد عام من الاستنزاف، وربما جره إلى مواجهة تُكمل "تفكيك" بنيته القيادية.