logo
العالم العربي
خاص

معركة "النفوذ الصامت" في سوريا.. حدود الاشتباك بين إسرائيل والأتراك

معركة "النفوذ الصامت" في سوريا.. حدود الاشتباك بين إسرائيل والأتراك
قوات تركية في سورياالمصدر: رويترز
28 يوليو 2025، 12:46 م

بينما كانت الأنظار تتجه إلى باريس، حيث التأم اجتماع وزاري غير مسبوق بين وزير الخارجية الانتقالي السوري، أسعد الشيباني، ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، بدأت تتسرّب بنود أولية من الاتفاق الذي وُقّع بين الطرفين هناك، ليُعيد فتح أحد أكثر الملفات حساسية في المشهد السوري، والمتمثل في ملف الجنوب.

البنود المسرّبة، والتي أكّدتها مصادر "إرم نيوز"، تشير إلى التوافق على سحب السلاح الثقيل من كامل الجنوب السوري، مع ابتعاد القوات النظامية التابعة للسلطة الانتقالية عن محافظة السويداء، ما أثار جملة من التساؤلات حول مستقبل الانتشار العسكري الإقليمي في سوريا، لا سيما في ظل انعدام التنسيق بين أبرز قوتين فاعلتين على الأرض: إسرائيل وتركيا.

أخبار ذات علاقة

قوات أمريكية في سوريا

إعادة جدولة.. الفوضى الأمنية في سوريا تعرقل انسحاب القوات الأمريكية

في الوقت نفسه، أكّدت وزارة الدفاع التركية، مؤخراً، استعداد أنقرة لتقديم دعم دفاعي للسلطة السورية الانتقالية، من دون التطرق إلى أي خطوات إضافية، مثل توقيع اتفاقية دفاع مشترك أو إنشاء قواعد عسكرية، وهي الطروحات التي أثيرت سابقاً في بعض الأوساط، خاصة عقب زيارة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع إلى إسطنبول، أواخر شهر أيار الماضي. هذا التحرّك التركي عُدّ مؤشراً على محاولة إعادة ضبط التموضع في الملف السوري، بما لا يُفسَّر كتحرك استفزازي في نظر القوى الفاعلة الأخرى، وعلى رأسها إسرائيل.

ويأتي هذا الحذر التركي بعد مرور قرابة ثلاثة أشهر على تصاعد الأنباء بشأن احتمالية توسيع أنقرة لوجودها العسكري، من خلال إنشاء قواعد دائمة في وسط سوريا. وهي الأنباء التي قوبلت برفض إسرائيلي واضح، إذ تعتبر تل أبيب أي تمدّد عسكري تركي تهديداً محتملاً لمعادلة النفوذ التي نجحت في تكريسها خلال السنوات الأخيرة في المنطقة الجنوبية من البلاد.

التوازن المضبوط وتبادل الرسائل

وفقاً لما أفاد به مصدر دبلوماسي غربي، فإن العلاقات بين أنقرة وتل أبيب بخصوص الملف السوري تشهد ما يمكن وصفه بـ"حالة ضبط متبادل للمواقف دون بلوغ نقطة الصدام أو التفاهم".

ولفت المصدر لـ"إرم نيوز" إلى أن إسرائيل "ترى في أي تمدد تركي داخل سوريا خطراً على هامش المناورة الذي اكتسبته في الجنوب"، لكنها "لا تفكر حالياً في المبادرة إلى التصعيد، طالما أن أنقرة لا تتجاوز سقف الدعم غير الهجومي لدمشق".

وأشار إلى أن "أي حديث عن اتفاقية دفاع مشترك تركية مع دمشق الانتقالية، أو عن إقامة قواعد عسكرية تركية دائمة في وسط البلاد، لن يُترجم إلى واقع بسبب الحساسية الإسرائيلية من جهة، وغياب الضمانات الدولية من جهة أخرى"، مضيفاً أن "السلطة الانتقالية نفسها باتت أكثر حذراً في إدارة توازناتها بين أنقرة وتل أبيب".

كما نوّه مصدر "إرم نيوز" إلى أن الاتفاق الأخير بين الحكومة السورية الانتقالية وإسرائيل، الذي تم تباحثه في باريس، خصوصاً في شقه المتعلق بإعادة تموضع القوات في الجنوب، ـ من وجهة نظر العديد من العواصم الإقليمية ـ يعد ترسيخاً نهائياً لنفوذ تل أبيب في المنطقة الجنوبية، حتى وإن لم يُعبَّر عن ذلك رسمياً.

وأوضح المصدر أن الاتفاق حمل إشارات واضحة حول طبيعة المرحلة المقبلة، التي سيكون عنوانها "الاستقرار الأمني الموجّه إسرائيلياً"، مشيراً إلى أن عدداً من العواصم الفاعلة، من بينها أنقرة، تقرأ هذا الاتفاق على أنه رسالة حاسمة مفادها أن الجنوب السوري بات جزءاً من المجال الحيوي الأمني الإسرائيلي، ولن يُسمح لأي قوة إقليمية بالاقتراب منه من دون ترتيبات مباشرة مع تل أبيب، وهو ما لا يبدو مطروحاً في الأفق القريب بالنسبة لتركيا.

فيما اعتبر أن السلطة الانتقالية نفسها "باتت تتفادى أي مقاربات أمنية شاملة خارج منطق التوازن بين القوى، وتدرك أن خوض مغامرات من هذا النوع قد يُدخلها في مسار من الاستقطاب الإقليمي، الذي لا تملك أدواته بعد".

وختم المصدر بالقول: "هناك حالة من التداخل المحدود بين إسرائيل وتركيا في مناطق النفوذ السورية، تُدار اليوم عبر رسائل ناعمة وحذرة، وتُراقب عن كثب من عواصم كبرى، ترى أن أيّ انزياح في هذه التوازنات قد يعيد إشعال الجغرافيا السورية بطريقة يصعب احتواؤها".

إعادة هندسة التمركز الإقليمي

الكاتب والمحلل السياسي السوري، فراس الحسيني، يشير إلى بنود الاتفاق الأخير بين الحكومة السورية الانتقالية وإسرائيل، ولا سيما البند المتعلق بإخلاء الجنوب من السلاح الثقيل وابتعاد الحكومة عن السويداء، إلى أن تل أبيب تمضي قدماً في تثبيت رؤيتها للجنوب السوري بوصفه منطقة أمنية رمادية خاضعة لسيطرة غير معلنة لكنها فعالة.

في المقابل، بدا واضحاً أن أنقرة، التي راقبت الاتفاق من بعيد دون تعليق رسمي، تسعى إلى إعادة تموضع محسوب في الشمال والوسط، لكنها تُبقي مسافة واضحة من الجنوب، حيث تُمسك إسرائيل بمفاتيح اللعبة.

هنا يتبدّى الفرق في القدرة على فرض الوقائع، وفق الحسيني، ففي حين تعتمد إسرائيل على شرعية الأمر الواقع المدعومة بغطاء غربي غير معلن، تبدو تركيا في هذه المرحلة وكأنها تُعيد تعريف مقاربتها العسكرية في سوريا، إذ تكتفي بالدعم الدفاعي من جهة، لكنها تبقي خيارات التموضع مفتوحة، وفق موازين القوى المتبدلة، دون استعجال ترجمة مشاريعها العسكرية إلى تمركز دائم، ربما إدراكاً منها أن الاستثمار في لحظات التفاوض قد يكون أكثر فاعلية من فرض أمر واقع قابل للانهيار.

وفي غياب اتفاق إقليمي شامل حول ترتيبات الوجود العسكري في سوريا بعد سقوط النظام السابق، يبدو أن كل طرف من الأطراف الفاعلة يسعى إلى ملء فراغ السيادة وفق هندسة خاصة به، بحسب حديث المحلل السياسي، معتبراً أن إسرائيل، التي باتت أكثر وضوحاً في تحديد مناطق نفوذها الأمني، خصوصاً في القنيطرة ودرعا وصولاً إلى محيط السويداء، تراهن على اتفاقات جزئية مع السلطة الانتقالية لتثبيت واقع جديد في الجنوب لا يُنافسه أحد.

أما تركيا، فتبدو بحسب الحسيني في موقع الباحث عن دور وقائي أكثر منه هجوميا، حيث تنظر بعين القلق إلى تمدد إسرائيل، لكنها تُدرك في الوقت نفسه أن أي تحرك مباشر قد يؤدي إلى اصطدام دبلوماسي واسع.

تقاطعات النفوذ ومحدودية الخيارات

في خضم هذه المعادلة المعقدة، تقف السلطة السورية الانتقالية في موقع المناورة الصعبة. فبين العرض التركي بتعزيز القدرات الدفاعية، وضغوط التفاهمات الأمنية التي تفرضها إسرائيل في الجنوب، تبدو هامشية قدرة دمشق على إدارة توازن مستقل.

لا يبدو أن التنافس بين إسرائيل وتركيا في سوريا يتجه نحو مواجهة صريحة، بقدر ما يتبلور ضمن معادلة هادئة من التزاحم المحسوب على الفراغ السوري، وفق ما أفاد به الباحث السياسي أحمد عبد الفتاح لـ"إرم نيوز".

وأضاف قائلاً إن "إسرائيل، التي راكمت في السنوات الأخيرة أدوات فعالة للضبط الأمني في الجنوب، تُحافظ على تفوّق ميداني صلب، تدعمه منظومة استخباراتية ضاربة، وشبكة تفاهمات أمنية ضمنية مع قوى مؤثرة.

أما تركيا، فتمارس حركتها ضمن حدود النفوذ الدفاعي، دون أن تتورط في هندسة أمنية شاملة، خصوصاً في ظل حساسية اللحظة الانتقالية في سوريا وعدم نضج الاصطفافات الإقليمية حتى الآن".

السويداء

واعتبر عبد الفتاح أن السلطة السورية الانتقالية تُدرك أن التوازن بين هذين الفاعلين ضرورة وجودية لها. وتابع: "مع أن هامشها الذاتي في تقرير الخرائط يبدو محدوداً، إلا أنها تحاول استثمار تعدد العروض الإقليمية لتعزيز موقعها التفاوضي لا أكثر. وهي في ذلك تلتزم أقصى درجات الحذر، مدفوعة برغبة في الحفاظ على خطوط الاتصال مع كل من أنقرة وتل أبيب دون استفزاز أحدهما لصالح الآخر".

كذلك، لا يمكن توصيف المشهد الراهن بوصفه صراعاً مباشراً أو تفاهماً راسخاً، بحسب عبد الفتاح، فهو أقرب إلى حالة من السيولة الاستراتيجية المشروطة، تتداخل فيها الحسابات الأمنية بالتقديرات السياسية.

وتُدير إسرائيل تموضعها في سوريا بقدرٍ عالٍ من الاحتراز والفعالية، مدفوعة بتفوق استخباراتي واضح ودعم غير معلن من شركاء غربيين.

في المقابل، تتحرك تركيا كفاعل إقليمي يدرك حدود الاشتباك الممكن في سوريا، لكنها لا تتنازل عن موقعها في معادلة النفوذ، بل تعمل على ترسيخ وجود دفاعي سياسي مرن، يتيح لها الحضور من دون تفجير خطوط التماس مع القوى الأخرى. هذا الحذر يمكن فهمه كجزء من منطق تركي قائم على إدارة النفوذ عبر أدوات التفاوض أكثر من المواجهة المباشرة.

أما السلطة السورية الانتقالية، أكد الباحث السياسي لـ"إرم نيوز"، أن الأمور تسير ضمن هامش ضيق من الخيارات، وتسعى إلى إدارة موقعها وسط هذا التداخل المعقّد من المصالح، من دون القدرة على صوغ توازن مستقل أو فرض معادلات جديدة.

بالعموم، فإن السؤال المركزي يبقى متمحوراً حول ما إذا كان يمكن لهذا التوازن الهش أن يصمد طويلاً، أم أن التحولات المقبلة ـ سواء جاءت من بوابة الجنوب أو عبر تفاهم تركي–سوري أعمق ـ ستُعيد خلط الأوراق، وتدفع بملف توازنات النفوذ العسكري الإقليمية في الملف السوري نحو اصطفاف جديد أكثر وضوحاً وحدّة.

 

;
logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة © 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC