منذ إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، ظلت العلاقة مع سوريا متوتّرة ومحاطة بحالة من العداء الرسمي والحروب، رغم محاولات عديدة من الحوار والمفاوضات لإيجاد سلام دائم.
في هذا الوثائقي نستعرض مسار مفاوضات السلام المؤجل بين الجانبين عبر العقود، وصولاً إلى اليوم حيث تعود كلمة السلام إلى أروقة السياسة مجدّداً.. فهل بات المستحيل ممكناً؟.
يقول تحسين الحلبي، الكاتب السياسي والمختص في الشؤون الإسرائيلية، إنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يسعى للفوز بجائزة نوبل من خلال تحقيق تسوية سلام دائم في الشرق الأوسط، وهو يعرف أنّه لا يمكنه أن يحقق تلك الغاية سواءً على مستوى الشرق الأوسط أو على مستوى العالم، إلّا إذا طلب من إسرائيل أن تتجاوب مع المفاوض السوري حين يطالب بالجولان.
محطات ما بعد حرب أكتوبر 1973
بعد حرب أكتوبر عام 1973، بدأ أوّل حوار غير مباشر بين سوريا وإسرائيل بوساطة أمريكية، وتحديداً مع وزير الخارجية الأمريكي آنذاك هنري كيسنجر الذي نجح في التوصل إلى اتفاق فصل القوّات في مايو/ أيار عام 1974. لكن الاتفاق كان تنظيمياً عسكرياً أكثر منه اتفاق سلام، واشتمل على إنشاء منطقة عازلة تخضع لرقابة قوات "الأندوف" التابعة للأمم المتحدة.
ويوضح الحلبي أنّ "سوريا كانت تستند إلى وجود كتلة عالمية إلى جانب الكتلة الأمريكية في عملية التفاوض، وقد اتّبعت في السبعينيات سياسة عدم التفاوض بشكل منفرد، معتبرةً أنّ عملية التسوية يجب أن تكون جماعية وشاملة، خصوصاً أنّها خاضت ومصر حرب تشرين عام 1973، ومن ثم لابدّ أن يتفقا معاً مع بقية الدول العربية على الحل الشامل. لكن ما حدث أنّه في مارس/ آذار عام 1979 قرّر الرئيس المصري الراحل أنور السادات أن يوقّع على اتفاقية كامب ديفيد التي أعادت له سيناء، ومن ثم بدأت سوريا مرحلة التفاوض مع الإسرائيليين بمفردها من أجل إيجاد حلّ سلمي واستعادة الجولان".
مؤتمر مدريد 1991 ومفاوضات التسعينيات
العام 1991 وبعد حرب الخليج الثانية، عُقد مؤتمر مدريد بضغط أمريكي وسوفييتي، لتجلس سوريا وإسرائيل لأوّل مرّة وجهاً لوجه في مفاوضات مباشرة، والتي استمرت في واشنطن طوال التسعينيات.
يقول السفير الإسرائيلي السابق، إيتامار روبينوفيتش، وهو ممثل رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحاق رابين في مفاوضات السلام آنذاك، إنّه "في شهر أغسطس من العام 1993، وقبل أن نتوجه إلى أوسلو بدلاً من دمشق، كان ثمّة احتمال التوصل إلى اتفاق مع سوريا وكذلك احتمال التوصل إلى اتفاق فلسطيني، حينها أخبر رابين وزير الخارجية الأمريكي آنذاك وران كريستوفر عن استعداده المشروط للانسحاب من الجولان مقابل تسويات مرضية تتعلق بالسلام والأمن، لكن للأسف عاد كريستوفر بردٍّ غير مُرضٍ من دمشق، وضاعت تلك الفرصة. كانت هناك فرص أخرى لكن أعتقد أنّ الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد أراد قبل وفاته بقليل حلّ الأمور الشائكة قبل أن يُسلم السلطة لابنه بشار، لكنّه تأخّر بعض الشيء؛ إذ كان قد ضعُف جسدياً وسياسياً آنذاك، لهذا لم يتحقق ذلك".
فرصة ضائعة مع اغتيال رابين
الفرصة ضاعت مع اغتيال رابين لتبدأ جولات متعدّدة من المفاوضات مع رئيسي الورزاء الإسرائيليين إيهود باراك وإيهود أولمرت، وسط صعوبات حول خطوط الانسحاب والضمانات الأمنية.
العام 2000، عُقدت قمّة شفردزتاون بوساطة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، لكنّها انهارت بسبب تمسّك سوريا بعودة الجولان بالكامل حتى حدود العام 1967.
يقول الحلبي: "وصلنا إلى مرحلة 2007-2008 التي ساد فيها نوع من العلاقات المتينة بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس بشار الأسد، ومن ثم تولّت حكومة تركيا أثناء وجود حكومة إيهود أولمرت، عملية الوساطة في المفاوضات، وآنذاك كادت عملية التفاوض تصل إلى اتفاق بشكل من الأشكال من أجل استعادة أجزاء من الجولان. لكن في النهاية لم يحصل شيء حتى بدأت الثورة السورية عام 2011، وقد شهدت العلاقات بين تركيا وسوريا برودةً، وتجمدت عملية المفاوضات نهائياً. هذه المحطة كانت أسوأ محطات التفاوض".
مرحلة الجمود والحرب السورية
اندلاع الحرب الأهلية السورية أعاد المنطقة إلى حالة من التوتر والصراع، مع تكثيف إسرائيل غاراتها على مواقع إيرانية وأخرى تابعة لميليشيا حزب الله داخل سوريا؛ ما أغلق آفاق التفاوض عملياً.
في ذلك السياق، يقول روبينوفيتش: "منذ العام 1992 تاريخ انعقاد مؤتمر مدريد، وحتى العام 2011 تاريخ اندلاع الحرب الأهلية السورية، حصلت جولات مفاوضات عديدة، وقد مثّلتُ إسحاق رابين، وأيضاً تشاورتُ مع رئيس إيهود باراك وإيهود أولمرت، اللذين تفاوضا بجدية مع سوريا".
ويتابع: "حتّى نتنياهو في ذلك الوقت، أعرب أيضا عن وجود استعداد للانسحاب من الجولان. فكل رئيس وزراء إسرائيلي، وكل إسرائيلي عاقل، يدرك أنه إذا أردنا السلام مع سوريا، فعلينا أن نتنازل عن الجولان أو عن معظم أراضيه، لكن سوريا لم تكن آنذاك منفتحة على أي ترتيبات أخرى، كالتأجير أو غيره من الحلول المحتملة، لذا كان الخيار صعباً وقاطعاً. وفي الواقع، فقد أبدى الجميع استعداداً للانسحاب من الجولان، لكن الجانب السوري بقيادة حافظ، ثمّ بقيادة أولمرت وبشار، لم يكن مرنًا حقاً".
مؤشرات جديدة بعد 2023
اليوم ومع تغير المشهد الإقليمي وعودة سوريا إلى الجامعة العربية، برزت مؤشرات على محادثات غير مباشرة برعاية عربية تُركّز على ترتيبات أمنية من دون الإعلان عن تفاصيل حول الجولان.
هنا يوضح روبينوفيتش أنّ "ما يتم تداوله ربّما يكون صحيحاً، وقد أكّد السفير الأمريكي توم باراك أنّ الولايات المتحدة تساعد إسرائيل وسوريا على التواصل، فالأمر أكثر من مجرّد شائعة"، فيما يقول الحلبي من جهته إنّ "كلّ شيء قابل للحدوث بحسب موازين القوى الراهنة، واليوم تمتلك سوريا أوراقاً قوية، من خلال التضامن العربي مع الإدارة السورية الجديدة والإجماع الغربي على دعم مشروع أحمد الشرع".
ويضيف: "ليست القوة فقط بالسلاح خصوصاً أنّ إسرائيل دمّرت كلّ أسلحة الجيش السوري السابق، وسوريا اليوم تحتاج إلى سنوات كثيرة من أجل إعادة بناء الجيش، وبالتالي أمام هذا الواقع، ستعتمد سوريا على كل عوامل الضغط العربية والإجماع الغربي من أجل أن تستعيد الجولان".
مقترحات أولية
في المعلومات التي حصل عليها موقع "إرم نيوز"، أنّ اللقاءات المباشرة بين الجانبين تحصل بشكل مستمر لكن ليس على مستويات عليا، وتقتصر حتّى الآن على الطابع الأمني، فيما رفع مستوى التمثيل لن يحصل قبل إنجاز اتفاق أمني مبدئي.
وتضيف المعلومات أنّ السيادة على الأراضي لم تتم مناقشتها بشكل فعلي، إنّما جرى تبادل تصوّرات فقط، وأنّ سوريا دعت إلى بناء سلام ترضى عنه الشعوب كي يتمّ نزع فتائل النزاع جذرياً، كما دعت سوريا إلى تغيير ذهنية التفكير في المفاوضات من باب الخاسر والرابح، والانتقال إلى ذهنية التعاون من أجل تأسيس سلام مستدام، وجعل الأراضي موضع النزاع حدائق تنمية وسلام يستفيد منها شعوب البلدين بشكل مباشر، وأنّه لم يتم الاعتراض على جعل المناطق الحدودية حتى عمق يتفق عليه مناطق منزوعة السلاح لاحقاً.
رؤية مستقبلية وتحديات السلام
يقول روبينوفيتش إنّ "إخراج إسرائيل من الجولان سيكون أمراً صعباً للغاية بالنسبة لأي حكومة إسرائيلية، لكن يُمكننا التفكير في بدائل أخرى، ومنها فكرة التأجير، اعتراف إسرائيل بسيادة سوريا على الجولان، مقابل سماح سوريا باستمرار الوجود الإسرائيلي هناك، لذا إذا تعاون الجانبان لإيجاد حلول خلاقة، فقد يكون هذا الأمر ممكناً.
وفي المقابل، يرى الحلبي أنّه "أثناء العقود الماضية وأثناء مفاوضات مختلفة جرت بين سوريا وإسرائيل، لم تستطع تل أبيب أن تقنع الإسرائيليين بالاستيطان في الجولان، فيما من حقّ الحكومة الشرعية الجديدة في سوريا استخدام كل الضغط العربي لعودة الجولان إلى سوريا".
ويختم روبينوفيتش بالقول، إنّ "الشرع قال منذ اليوم الأوّل إنّه ليس مهتماً بالصراع مع إسرائيل، بل مهتمٌّ بالترتيبات العملية. على الأرجح هو لا يرغب في التطبيع مع إسرائيل من دون الجولان، لكنّه يعلم أنّ هذا الأمر غير مطروح للبحث حالياً، إنّما قد يرغب، على سبيل المثال، في إقامة علاقات جيدة مع إسرائيل. أعتقد أنه ربّما مقابل انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها بعد الثورة في سوريا، قد يكون مستعداً لإبرام إتفاق أمني يشمل قضايا معينة، لكنه لا يسعى إلى سلام وتطبيع شاملين، فيما الحديث عن انضمام سوريا إلى اتفاقيات "أبراهام" أمر سابق لأوانه وغير واقعي، لكن هناك إمكانية لبناء علاقة سلمية بين البلدين على الأقل في الوقت الحالي".
تاريخ مفاوضات السلام بين إسرائيل وسوريا يعكس معادلات سياسية معقدة، حيث يتقاطع الملف مع تحوّلات إقليمية ودولية مستمرّة. ورغم تعثّر كلّ المحاولات السابقة، يبقى ملف الجولان مفتاح أيّ تسوية محتملة، فيما الرهان اليوم على تحوّلات في موازين القوى، وكذلك دور الوسطاء الإقليميين والدوليين.
شاهدوا أيضاً: حرب إيران وإسرائيل من الظل إلى مواجهة مباشرة طالت النووي الإيراني