تكشف المصوّرة الفرنسية جولييت بافي، في مشروعها التصويري "تحت جليد القطب الشمالي: الزئبق"، عن واقع مقلق بعيد عن أنظار العالم.
ويسلّط المشروع الضوء على تعرّض السكان الأصليين في كل من غرينلاند ونونافوت لمستويات مرتفعة وخطيرة من مادة الـ"ميثيل ميركوري" السامّة، مما يهدد صحتهم وحياتهم اليومية بشكل متزايد.
ووفقًا لما نشرته صحيفة "لوموند" الفرنسية، فإن ذوبان الجليد الدائم بفعل التغيرات المناخية أدى إلى إطلاق كميات كبيرة من المواد السامة المدفونة في طبقات التربة المتجمدة منذ آلاف السنين، وعلى رأسها مادة الميثيل ميركوري، أحد أخطر المركبات العضوية السامة.
تتراكم هذه المادة تدريجيًا عبر السلسلة الغذائية، من الكائنات الدقيقة إلى الأسماك والفقمات، لتصل في النهاية إلى الإنسان، مسببة أضرارًا جسيمة في الجهاز العصبي، لا سيما لدى الأجنة والأطفال الصغار.
وتجدر الإشارة إلى أن منظمة الصحة العالمية صنّفت الميثيل ميركوري ضمن أخطر 10 ملوثات تهدد الصحة العامة.
وأوضح التقرير أنه في أوائل عام 2024، زارت جولييت بافي مجتمعات الإينويت في نونافوت الكندية لتوثيق آثار هذا التلوث على نمط حياتهم.
وأظهرت إحدى الدراسات التي استشهدت بها أن نحو 59% من تعرّض سكان القطب الشمالي للزئبق مصدره تناول لحم الفقمة.
ونقلت بافي عن أحد الصيادين المحليين قوله: "نتجنب أكل الفقمات الكبيرة في السن، إذ نتركها للكلاب، لأن طعم لحمها يصبح مُرًّا بفعل تراكم الزئبق في أجسادها".
وتأسس إقليم نونافوت عام 1999 كمنطقة حكم ذاتي ضمن كندا، ويبلغ عدد سكانه حوالي 36 ألف نسمة، معظمهم من أصول إينويتية.
وأكد تقرير الصحيفة الفرنسية أنه رغم أن الصيد وصيد الأسماك لا يشكّلان سوى 0.1% من الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة، إلا أنهما يُعدّان أساس الحياة الغذائية والثقافية لسكانها.
وأبرزت بافي خلال زيارتها كيف ينقل الصيادون الإينويت، أمثال دينوس تيكيفيك، معارفهم التقليدية إلى الأجيال الجديدة، من خلال تعليمهم مهارات بناء الإغلو، وتقنيات الصيد، وتعليم اللغة الإينوكتتية.
وبالنسبة للإينويت، يُعدّ الصيد أكثر من مجرد نشاط اقتصادي؛ إنه طقس مقدّس يعكس علاقة احترام متبادل مع الطبيعة.
وفي الوقت الذي تشكل فيه الفقمات المصدر الأول للتعرض للميثيل ميركوري، تُعدّ أسماك الأومبل شافالييه (السلمون القطبي) ثاني أكبر مصدر بنسبة 8.4%.
كما أظهرت دراسة أُجريت عام 2022 أن مستويات الزئبق في بعض هذه الأسماك تجاوزت الحدود الآمنة التي حدّدتها وزارة الصحة الكندية.
وتتزايد المخاوف الصحية مع ظهور مشكلات طبية بين السكان المحليين، مثل أمراض القلب، التي قد تكون مرتبطة بالتعرض المزمن للميثيل ميركوري، بحسب تقارير علمية أمريكية حديثة.
من جانبه، أشار عالم الأحياء أوساراك جاري آرياكا، المولود في إيكالويت والعامل مع وزارة الصيد والمحيطات الكندية، إلى أن الملوثات تبدأ رحلتها عبر النظام البيئي من خلال الكائنات الدقيقة مثل العوالق النباتية، التي تمتص الميثيل ميركوري وتنقله إلى مستويات أعلى في السلسلة الغذائية.
وتُظهر الإحصاءات الحديثة أن سكان غرينلاند ونونافوت يسجّلون أعلى مستويات تركيز الزئبق في الدم عالميًا، بمتوسط قدره 8.6 ميكروغرام لكل لتر، مقارنةً بأقل من 1 ميكروغرام لكل لتر لدى سكان كندا من خارج القطب الشمالي، ما ينذر بكارثة صحية صامتة تهدّد مستقبل هذه المجتمعات.