يعد الأديب والناقد محمد عيسى المؤدب أحد أبرز الأسماء على الساحة الثقافية بتونس حاليا من خلال أعماله الروائية التي حظيت بإشادة واسعة واحتفاء لافت مثل "حذاء إسباني"، "بلاص ديسكا"، "حمام الذهب".
وفي روايته الأخيرة "الجندي المجهول"، يطرح ثنائية التاريخ والهوية في تونس من خلال رؤية درامية تعانق الوطن وترسمه رمزا خالدا في القلب عبر عصور وحقب زمنية متوالية.

"إرم نيوز" حاورت المؤدب حول أبرز ملامح تجربته، فضلا عن قضايا الفكر والأدب والثقافة الملحة عربيا.
ما الهاجس أو الفكرة التي كانت تلحّ عليك بشدّة وأردت طرحها عبر روايتك "الجنديّ المجهول"؟
الرواية محورها البيت الشهير للشاعر التونسي (أبو القاسم الشّابي) "إذا الشّعبُ يومًا أراد الحياة / فلابد أن يستجيب القدر"، بمعنى أنّ إرادة الحياة لدى الشّعوب هي التي تكنس المستعمرين من أراضيها وتُقاتل من أجل الحريّة والكرامة وترفض كلّ أشكال الظّلم والقهر والغطرسة.
في الواقع، عرفت تونس حركات استعماريّة كثيرة، بدْءًا بالإسبان عام 1535 وصولًا إلى الفكر المتطرّف الذي حاول غزو تونس بعد ثورة 2011. بطل الرواية، الجندي المجهول، يواجه إذن كلّ هؤلاء بأشكال مختلفة، ومن حقبة إلى أخرى.
ويرمز هذا الجندي في الحقيقة إلى المنسيّين والمهمّشين الذين يتصدّون لتلك الحركات الاستعماريّة بما يعكس صلابة الشّخصيّة التّونسيّة.
الرّواية تكاد تكون مغرقة في الطّابع المأساوي.. هل هذا عنصر مشجّع أم محبط للقارىء، من وجهة نظرك؟
أستحضر مقولة شهيرة للمفكر التونسي محمود المسعدي"الأدب مأساة أو لا يكون". هذه المأساويّة برأيي تفتّش في أعماق الإنسان، في تجاربه ورؤاه، وفي الأخير تقدّم تجارب غنيّة ومختلفة، لأشخاصٍ يعيشون أزمة أو نكسة أو هشاشة، إذن تكون المأساة وفق هذا المنحى مُشجّعة ومحفّزة، ولندع الأفراح للمسرحيّات الهزليّة والأغاني الخفيفة، هكذا أعتقد.
هل تتّخذ من أعمالك الروائيّة وسيلة لإعادة كتابة تاريخ تونس؟
في تجربتي الرّوائيّة أخوض فعلا تجربة سرد تاريخ تونس، لكنّي لا أزعم أنّي أُعيد كتابة التّاريخ بشكلٍ حرفيّ، بل أستدعيه بشكلٍ فنيّ من خلال ذاكرة المهمّشين، وهو ما ينسجم مع مشروعي الرّوائي الذي يطرح قضية الهويّة في المجتمع التّونسي من خلال السّؤال التّالي: من نحن؟
يحضر التّاريخ أيضا لتشريح الواقع واستيعاب تحوّلات المجتمع وفهم قضاياه المهمّة المرتبطة بالهويّة، ففي رواية "حمّام الذّهب" استدعيت ذاكرة الأقليّة اليهوديّة في تونس وتحديدا "يهود القرانة" وطرحتُ سؤال الهويّة التونسيّة التي تقوم على التعدّد والمُشترك، لا على الإقصاء والإلغاء والتّناحر.
أمّا رواية "حذاء إسباني" فهي تسرد ذاكرة المنافي والمنفيين التي عرفتها تونس وبشكل خاصّ البحّارة الإسبان الذين هربوا من الجنرال فرانسيسكو فرانكو في نهاية الحرب الأهليّة الإسبانية سنة 1939 ليتشرّدوا في برّ تونس.
ما الذي يميّز فنّ الرّواية في تونس مقارنة ببقيّة البلدان العربيّة الأخرى؟
عرفت الرّواية التونسية منذ تسعينيات القرن الماضي تطوّرا واضحًا، وتميّزت في السّنوات الأخيرة بالتّراكم الكمّي، والتعدّد أو الاختلاف الفنّي، فهناك الرّواية الواقعيّة، والرّواية التّاريخيّة، ورواية الخيال العلمي، والرّواية التّجريبيّة.
لكنّ الرّواية التّجريبيّة هي الأكثر حضورًا الآن، بأصوات أو تجارب متنوعة ومختلفة في الغالب. انطلق التجريب منذ ثمانينيّات القرن الماضي، من خلال رفض الأشكال الفنيّة المكرّسة، مثل المعمار التّقليدي، واللّغة التّقريريّة والشّخصيّة الجاهزة، مقابل التّجريب اللّغوي، واستدعاء اللّهجة الدّارجة، وتعدّد الأصوات، والتّداخل بين الواقعي والتّخييلي، وغيرها من الأشكال الفنيّة الحديثة والمتحرّكة أو المتطوّرة باستمرار.
نحن إذن إزاء حراك سرديّ مهمّ وتحول لافت شمل كتابة الرّواية بمختلف أنواعها واتّجاهاتها، ومسّ أيضًا رواية اليافعين التي انشغلت بقضايا الشّباب والهجرة والثّورة الرّقميّة.
هل نال الأدب التونسي ما يستحقّ من حفاوة وتكريم عربيّا؟
تحضر الرّواية التّونسيّة اليوم بتجاربها المختلفة في أهمّ الجوائز العربيّة وحتّى العالميّة، وتسافر إلى لغات العالم، لا ننسى حقيقة جهود بعض دور النّشر التي أخرجت الكتاب التّونسي من الانغلاق والتقوقع، ومنها منشورات "ميسكلياني" ودار "التّنوير"، ودار "الكتاب"، ودار "زينب".
أمّا عن الحفاوة والتّكريم، فإنّ ذلك لا يُهدى لأيّ كاتب في العالم، وإنّما تؤسّسه خصوصيّة التّجربة وجديّتها وطرافتها، وجودة النصّ وتميّزه.
في السّنوات الأخيرة وصلت أعمال العديد من الرّوائيّين التونسيين إلى قائمتي جائزة "البوكر"، الطّويلة والقصيرة، وأحرز شكري المبخوت الجائزة، هذا مهم جدّا لتطوير التّجارب باستمرار، أمّا من يقف ويكتفي مُتوهّمًا الوصول إلى القمّة فإنّه سيُمحى سريعًا من المشهد.
تمارس أيضا النقد عبر كتابات معمّقة لفتت الأنظار، ما هي أزمة النّقد العربي بحسب رؤيتك؟
أعتقد أنّ أزمة النّقد العربي الحديث تتجلّى أساسًا في الاتّكاء المفرط على المناهج الغربيّة، وغياب مناهج عربيّة تدافع عن وجود النصّ الأدبي في خصوصيّته وتفرّده، بالإضافة إلى المجاملات والارتباك الحاصل في تجارب الكثير من النقّاد وعدم استساغتهم للتّجريب.
بصراحة..هل تحكم العلاقات الشخصية والمجاملات الوسط الأدبي؟
في الواقع، العلاقات الشّخصيّة والمجاملات موجودة في الكثير من الملتقيات والأنشطة الأدبيّة والفكريّة العربيّة، وهي تسيء إلى الكتّاب أنفسهم، قبل أن تسيء إلى أعمالهم، لكن هناك ملتقيات وجوائز ومعارض كتب محترمة، نثق بها، ولا تُدار بالعاطفة أوالعلاقات السّطحيّة السريعة.