لم يكن فوز المخرج الإيراني جعفر بناهي بجائزة "السعفة الذهبية" في الدورة الأخيرة من مهرجان كان السينمائي عن فيلمه " حادث بسيط" مجرد ضربة حظ أو محض تعبير عن حالة من التعاطف مع مبدع يصنع فنه وسط ظروف صعبة، وإنما تتويج لرحلة من التميز الفني والجمالي امتدت عقودا عدة.
ويكمن سر تميز بناهي في عدة نقاط أبرزها نقده الصريح والجريء للأوضاع الاجتماعية والسياسية التي تعيشها بلاده، مما أوقعه في العديد من المشكلات التي وصلت إلى حد إيداعه السجن أكثر من مرة، كان آخرها في الفترة بين عامي 2022 و2023.
وتعكس أفلام بناهي حالة من الشجاعة في تناول أزمات الواقع، لا سيما تراجع المجال العام أمام حرية التعبير وسطوة التقاليد الاجتماعية المتزمتة والتضييق على حقوق النساء، سواء ظهر ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر كما في أول أفلامه "البالون الأبيض" الصادر عام 1995، مرورا بعدد من أبرز أعماله الأخرى مثل "المرآة" و"الدائرة" و"الذهب القرمزي" و"تسلل".
ورغم أن أفلامه تركز على الحياة اليومية للمواطن الإيراني، فإنه لم يقع في فخ الطابع التقليدي ونجح في تجاوز إطار الواقعية الكلاسيكية إلى ما يسمى بـ "الواقعية الجديدة"، وهي مدرسة سينمائية تستلهم الواقع لكنها لا تقف عنده وتحلل مضمونه عبر الرمز والبعد النفسي والتلاعب في حركة الكاميرا.
ويؤكد العديد من أفلامه، مثل "تاكسي" و" لا دببة" و" ثلاثة وجوه"، أننا أمام مبدع مختلف يسعى لتقديم مفردات بصرية جديدة تخرج عن الإطار التقليدي للسينما الإيرانية، وتطمح لصنع حالة من الحساسية المختلفة في طريقة السرد وعدم الوقوف عند حدود فكرة "الحدوتة المسلية".
ويعد بناهي أول مخرج في العالم يحصل على جائزة عالمية عن فيلم لم يتم التصريح بعرضه، كما لم يتم السماح للمخرج نفسه بالسفر لاستلام الجائزة، وهو ما حدث في 2015 حين حصد جائزة "الدب الذهبي" من مهرجان برلين السينمائي الدولي عن فيلم " تاكسي"، إذ تسلمت الجائزة بالنيابة عنه ابنة أخته الطفلة حنا.
وكان لافتا أن "تاكسي" تم تنفيذه بميزانية بسيطة للغاية، كما هو الحال في معظم الأفلام الإيرانية، إذ يجوب بناهي شوارع العاصمة طهران بتاكسي يتوافد عليه الركاب تباعا ليحكوا عن همومهم البسيطة ثم يترجلون.
وعلى غرار الفيلم، تبدو الكثير من أعماله ذات طابع تسجيلي وتحمل حسا وثائقيا، لكن تميز المخرج هو ما يصنع من تلك الأفكار البسيطة صورة بصرية أخاذة وتوترا دراميا متصاعدا، على نحو جعل منه "رائد الواقعية الجديدة" في بلاده.