تخيل أنك في حفلة، تتحدث إلى شخص لم تقابله من قبل، ما هي العوامل التي تجعلك تنجذب عاطفيا له كصديق أو حبيب؟ الكلام والنظرات والابتسامات وتعبيرات الوجه عوامل مؤثرة، لكنها ترتبط بـ "وعي" الإنسان، وبالتالي تحدث في إطار متحكم فيه، بينما هناك عامل آخر يؤثر في "اللاوعي" وله تأثير لا يقل أهمية.
إنها "رائحة" الشخص الذي تتحدث معه، حسبما يؤكد أستاذ علم الأعصاب في معهد وايزمان للعلوم في إسرائيل نعوم سوبيل، مشيرا إلى أن حاسة الشم لدى الإنسان تؤثر "بشكل لا شعوري في تقييم من يتحدث معه"، وقد يكون هذا التقييم متعارضا مع المؤثرات الأخرى، المرتبطة بشعوره الواعي، حسبما أورد موقع مجلة "ديسكفري".
واستند سوبيل في خلاصته إلى نتائج دراسة أجراها فريق بحثي تابع لـ "وايزمان"، تحت إشرافه، حول الدور الذي يمكن أن تلعبه عوامل غير عاطفية (أحيانا كيميائية) في التأثير على العاطفة، وبالتالي تحديد الصداقات وربما علاقات الزواج.
وكانت دراسة سابقة للمعهد، قد أثبتت أن الإنسان يميل إلى اختيار صديقه الذي يشبهه في "رائحة" جسمه، لكن من دون تحديد كيفية حدوث ذلك.
ركز سوبيل وفريقه دراستهم على تحديد هذه الكيفية، عبر جمع عينات من روائح أجسام 20 زوجا وصديقا، عبر جهاز يسمى الأنف الإلكتروني (eNose)، يعمل على كشف أوجه التشابه الكيميائية بين هذه الروائح، وملاحظة تأثيرها على نشاط أدمغة الأزواج أو الأصدقاء، عبر تصوير هذا النشاط.
وكشف تصوير أدمغة المشاركين في البحث أن حاسة الشم تنشط مناطق معينة في الدماغ، مثل القشرة الحجاجية الأمامية، (هي منطقة في الفص الجبهي في الدماغ، والتي لها وظائف في المعالجة المعرفية من أجل اتخاذ القرار) ثم تنشط بعدها المنطقة المسؤولة عن الجانب العاطفي والإدراكي؛ ما يشير إلى أن الرائحة لها تأثير في "لاوعي" الإنسان.
فعندما يشم الإنسان رائحة جسد الصديق تنشط المناطق الدماغية المرتبطة بعاطفة الألفة، بينما تحفز رائحة الشخص الغريب "اللوزة الدماغية"، وهي جزء من الدماغ يشارك في الاستجابة للشعور بـ "الخوف".
وللتحقق من النتائج والتأكد ما إذا كانت الروائح لعبت دورا رئيسا في تكوين الصداقات والعلاقات العاطفية، قام الباحثون بجمع مجموعة من الغرباء وطلبوا منهم التفاعل بصمت مع بعضهم البعض، ثم أعطوهم استبيانا لتقييم مدى إدراكهم لشركائهم في التجربة.
تنبأ eNose بأن عاطفة الأشخاص نحو أصدقائهم وأزواجهم ستكون أعلى من غيرهم بنسبة 73%، وهو ما جاء متطابقا مع نتائج الاستبيان.
وهنا يوضح سوبيل أن هذه النتائج لا تعني أن "البشر مثل الكلاب تماما.. تبني تفاعلها الاجتماعي بالكامل على أنوفها"، لكنها تثبت أن "هذا العامل (حاسة الشم) يلعب دورا في التفاعلات الاجتماعية، لا يدركها الإنسان في الغالب".
ويشير أستاذ علم الأعصاب أن الأدلة متزايدة على أنه "يمكن التمييز بشكل صحيح بين رائحة أجسام الأقارب من غير أفراد الأسرة وتخمين الحالات العاطفية للآخرين، بناء على رائحة عرقهم فقط".
ومن شأن نتائج هكذا دراسة أن تفتح الباب واسعا أمام البحث في التأثيرات الصحية المتوقعة لتداعيات جائحة كورونا، خاصة أن ما يصل إلى ثلاثة أرباع المصابين بالفيروس يعانون من فقدان حاسة الشم، وبعضهم يعاني من استمرار هذه العرض حتى بعد تعافيه.
لم يدرس معهد وايزمان هذا الأمر بعد، لكن فريقه يؤكد أن الأشخاص الذين يعانون من ضعف حاسة الشم لديهم فرصة أقل في تكوين علاقات صداقة واسعة النطاق، ما يعني "أننا لا نصبح أصدقاء مع أشخاص يشبهوننا في مظهرهم أو قيمهم فقط، ولكن أيضا مع من يشبهوننا في أنماط أنشطة أدمغتهم أيضا"، بحسب سوبيل.